عودة ياسر عرفات إلى أرض الوطن في الأول من تموز/يوليو 1994 تمثل لحظة مفصلية في التاريخ الفلسطيني المعاصر، لا باعتبارها مجرد مشهد رمزي لزعيم يعود من المنفى، بل كترجمة عملية لتحوّل سياسي معقد حمل معه وعود الدولة المستقلة، كما حمل بذور الخلاف والانقسام. فقد كانت عودة “أبو عمار” إلى غزة في إطار اتفاق أوسلو محطة انطلاقة جديدة في المشروع الوطني الفلسطيني، لكنها في الوقت نفسه كشفت عن تعقيدات المرحلة الجديدة، حيث بات التحرر الوطني مرتبطًا باتفاقات دولية وموازين قوى غير متكافئة.
عرفات يُقبّل تراب غزة
عرفات، الذي قضى 27 عاماً في المنفى متنقلاً بين العواصم العربية والعالمية كرمز للكفاح الفلسطيني المسلح، عاد إلى غزة ليس بصفته قائدًا لفصيل مقاتل، بل رئيسًا للسلطة الوطنية التي أنشئت وفق تسوية سياسية مؤقتة. هذه العودة كانت لحظة مشحونة بالتناقضات؛ فبين نشوة الجماهير التي هتفت باسمه وأحلام الدولة المرتقبة، كان الرجل يدرك أن ما حصل عليه من اتفاق أوسلو لا يلبي كامل طموحات شعبه، وهو ما عبر عنه بصراحة حين قال: “قد لا تكون هذه الاتفاقية ملبية لتطلعات البعض… ولكنها كانت أفضل ما أمكننا الحصول عليه”.
مشهد عرفات وهو يُقبّل تراب غزة، ثم يتوجه إلى ساحة الجندي المجهول، لا يمكن فصله عن عمق رمزيته الثورية. لقد أراد الرجل أن يثبت أنه لم يعد خاضعًا لإملاءات الخارج، وأن القرار الوطني الفلسطيني لا يزال مستقلًا. وفي الوقت ذاته، لم يفقد اتصاله بجذور النضال، فاختار زيارة مخيم جباليا، مهد الانتفاضة الأولى، ليؤكد استمرار الارتباط بين السلطة القادمة والنضال الشعبي.
رمزية الكوفية
لكن عودة عرفات لم تكن خالية من التحديات، فقد وجد نفسه بين مطرقة الالتزامات الدولية وسندان المطالب الشعبية، وكان عليه أن يبدأ ببناء مؤسسات حكم من الصفر، في بيئة سياسية وأمنية متوترة، وتحت رقابة إسرائيلية ودولية خانقة. لقد أدرك منذ اليوم الأول أن معركته لم تنتهِ، بل بدأت بشكل جديد: معركة إدارة وطن بلا سيادة كاملة، وشعب مشتت، وسلطة بلا موارد حقيقية.
عرفات في تلك المرحلة لم يخلع عباءته الثورية رغم تغير الواقع. فحتى وهو يؤدي اليمين كرئيس للسلطة، أبقى على رمزية الكوفية، وأصر على أن تكون القضية الفلسطينية فوق شخصه، وهو ما تجلى حين أسكت الجماهير التي هتفت له قائلًا: “اهتفوا فقط لفلسطين”. هذه العبارة، وإن بدت عابرة في لحظتها، تحمل دلالة جوهرية: أن عرفات كان يرى نفسه جزءًا من مشروع وطني أكبر، لا زعيمًا فوق القضية.
رمز الهوية الوطنية الموحدة
المفارقة المؤلمة أن تلك العودة التي حملت معها وعود الدولة والاستقلال، انتهت بعد عشر سنوات بحصار سياسي وعسكري شديد في المقاطعة برام الله، حيث واجه عرفات عزلة دولية وإسرائيلية عقابية بسبب تمسكه بالثوابت الوطنية، لا سيما رفضه التنازل عن القدس وحق العودة. وانتهى المشهد برحيله شهيدًا في ظروف لا تزال غامضة، لتغلق بذلك صفحة من صفحات النضال الفلسطيني بصيغة الزعيم الواحد، وتبدأ مرحلة جديدة من الانقسام والانكشاف السياسي.
لم تكن عودة ياسر عرفات إلى غزة حدثًا عابرًا، بل كانت تتويجًا لمسار نضالي، وبداية لتحول كبير في بنية المشروع الوطني الفلسطيني. لقد حمل الرجل على كتفيه عبء الانتقال من الثورة إلى الدولة، ومن البندقية إلى التفاوض، وحاول أن يوفّق بين التمسك بالثوابت ومقتضيات السياسة الدولية، فصار رمزًا للهوية الوطنية الموحدة في زمن التمزق، وترك فراغًا كبيرًا برحيله لا يزال الفلسطينيون حتى اليوم عاجزين عن ملئه.