في مشهد يختزل معاناة قطاع غزة تحت العدوان، تتحول الأبراج السكنية المدمرة جزئياً إلى ملاجئ مؤقتة لعائلات لا تملك بديلاً، كما هو حال السيدة ليلي عبد ربه، التي انتهى بها المطاف بعد تسع محطات من النزوح إلى شقة مهجورة بمبنى شوا وحصري في شارع الوحدة وسط مدينة غزة. ما كان في السابق عنواناً للمكاتب الإعلامية والتظاهرات الصحفية، صار اليوم مركز نزوح هزيل البنية، يضج بالخوف والانهيارات المحتملة، لكنه لا يزال أفضل من لا شيء في قاموس من تقطعت بهم سبل الحياة.انهيار
منظومة الحماية الإنسانية
رحلة ليلي من خيمة الزرقا إلى شقة مهددة بالانهيار داخل برج متصدع، تكشف عن عمق الفجوة بين الواقع الإنساني المتدهور في غزة وبين الشعارات الفضفاضة عن “الإغاثة” و”خطط اليوم التالي”. فعندما تضطر امرأة وأطفالها إلى العيش وسط حطام طوابق مهدمة، محاطة بالموت من كل جانب، فإن ذلك ليس فقط دلالة على القصور الإغاثي، بل على الانهيار الكامل لمنظومة الحماية الإنسانية والمدنية التي يفترض أن تتدخل لوقف هذه المأساة.
شهادة ليلي عن مشيها حافية في شارع الوحدة، وخوفها من سقوط أطفالها من جوانب البرج المفتوحة، تؤكد أن سكان غزة يعيشون حالة من انعدام الخيارات لا تقل في قسوتها عن الحرب نفسها. فالخوف اليومي من الموت لم يعد محصوراً في غارات أو قذائف، بل امتد إلى الأبنية التي لا تملك أسقفاً آمنة ولا أرضيات ثابتة. وهنا تصبح الحياة في قلب الخطر جزءاً من النمط اليومي، لا ترفاً يمكن التفاوض عليه.
تجربة محمد إسماعيل صالح، أحد سكان البرج ذاته، تكرّس هذا الواقع المأساوي. الصعود على درج متهدم، انعدام شبكات الصرف الصحي، وانعدام إمكانية نقل المياه إلى الطوابق العليا، كل ذلك يعيد غزة إلى زمن الكفاف البدائي، ولكن على أنقاض عمارات عصرية قُصفت وتحولت إلى هياكل عظمية تعجّ بالنازحين.
العيش على الركام
إن ما يحمله برج شوا وحصري من رمزية يتجاوز كونه مبنى. فقد كان مقراً لمكاتب إعلامية عدة، وكان شاهداً على صوت الحقيقة قبل أن يُخرس بالقصف. اليوم، تحول إلى شاهد صامت على فشل العالم في حماية المدنيين، وعلى كيفية استبدال العدالة الدولية بالصمت، والمؤسسات الإنسانية ببيوت منهارة يسكنها الخوف والتأقلم القسري.
الأخطر أن هذا النمط من “العيش على الركام” قد يتحول إلى نمط مستدام في ظل غياب أية خطة فعلية لإعادة الإعمار أو حتى لتأمين مساكن بديلة للنازحين. والمجتمع الدولي، الذي يراهن على عودة الحياة إلى غزة تدريجياً، يتجاهل حقيقة أن البقاء في أماكن غير صالحة للسكن لا يعني العودة، بل الغرق في دوامة أخرى من النزيف البطيء.
مقابر مؤجلة
إن مشهد النازحين في برج شوا ليس حالة استثنائية، بل صورة مصغرة لواقع آلاف العائلات التي تبحث عن مأوى في كل زاوية مدمرة، وتضطر للعيش وسط الغبار والتصدعات وتحت تهديد الانهيار أو إعادة القصف. وما لم يتحول هذا المشهد إلى قضية طارئة على طاولة المجتمع الدولي، فإن الحكايات ستتكرر، والأبراج المهجورة ستتحول إلى مقابر مؤجلة تحت مسمى “السكن المؤقت”.
بهذا المعنى، فإن قصة ليلي عبد ربه وعائلتها ليست فقط قصة لجوء داخلي، بل شهادة على ما يحدث حين تُغلق كل الأبواب أمام شعب يُطلب منه أن يصمد تحت القصف، وأن يعيش على أنقاض مدينته، دون أن يسأل متى تنتهي المأساة أو من المسؤول عن إيقافها.