في قلب الضفة الغربية، حيث تنبض الأرض بتاريخ طويل من الصمود والمعاناة، يعيش الفلسطينيون فصلاً جديداً من مأساة لا تنتهي. فبيوت كانت ملاذاً لعائلات بأكملها، تحوّلت في لحظات إلى أكوام من الركام تحت عجلات جرافات الاحتلال الإسرائيلي. لا يفرّق الهدم بين منزل بُني قبل عقود وآخر بالكاد اكتمل، ولا بين بيت يأوي أطفالاً أو متجر يُعيل أسرة.
تحت ذرائع واهية، تتنوع بين “الأمن” و”العقاب” و”الإدارة”، يواصل الاحتلال حملة تدمير ممنهجة لمنازل الفلسطينيين في جنين وطولكرم ونابلس وغيرها من مدن الضفة الغربية. وفي ظل صمت دولي وتواطؤ معلن أو خجول، تتوالى القصص الإنسانية التي تروي حجم الفاجعة التي لا يمكن للأرقام وحدها أن تختصرها.
أمجد خازم.. رجل فقد كل شيء في لحظة واحدة
لم يكن أمجد خازم يتوقع أن يبدأ صباحه الأخير في بيته الذي وُلد فيه، بالبكاء والدموع المحترقة. رجل في الرابعة والستين من العمر، عاش حياته كلها بين جدران منزل في مخيم جنين، بناه والده قبل أن يبصر النور. أمام أعين أمجد، سحقت جرافات الاحتلال جدران الذاكرة، وهدمت منزله ومحله التجاري، إلى جانب منازل عشرة من إخوته ومحالهم. لم يكن أمامه سوى الوقوف عاجزاً، يشاهد بقايا عمره تتطاير في الهواء مع الغبار والحجارة.
“لم يتركوا لنا شيئاً”، قالها بصوت مخنوق. لم يكن يتحدث عن الحجارة، بل عن معنى الوطن، عن الجذور التي اقتُلعت، عن الأمان الذي صار سراباً. في لحظة، خسر العائلة المأوى والمصدر الوحيد للرزق. لم يكن الدمار مادياً فقط، بل روحياً ونفسياً، في مدينة اعتادت على الجراح لكن لم تألف يوماً أن تُهدم القلوب مع البيوت.
مخيم طولكرم.. حين يتحول الحلم إلى ركام
في مخيم طولكرم، حيث تتشابك الأزقة الضيقة مع الحكايات الطويلة، استيقظ المئات من العائلات الفلسطينية على قرار إسرائيلي جديد: إخطار بهدم 104 منازل دفعة واحدة. لم تكن صدمة بقدر ما كانت انتزاعاً قسرياً من الحاضر والماضي معاً.
هناك، حيث تنام الأسر في غرف ضيقة وتقتات من أبسط الموارد، تترقب الأمهات بخوف متجدد موعد اقتحام الجرافات، تتساءل إن كانت هذه الليلة ستكون الأخيرة في المنزل، إن كان الأطفال سيستيقظون غداً على أصوات الجنود بدلاً من المدرسة.
الهدم لم يعد حدثاً استثنائياً في حياة سكان المخيم، بل روتيناً مرعباً يداهمهم بصمت، يسرق منهم كل ما تبقى من استقرار.
سيلة الحارثية.. البيت الذي صار جريمة
في بلدة سيلة الحارثية غرب جنين، لم يكن بيت الشهيد رأفت دواسة مكاناً عادياً لعائلته. كان بيتاً مملوءاً بالذكريات، بأصوات الأبناء، بصور الغائبين، وبضحكة أمٍ تحتفظ بها الزوايا. لكن البيت اليوم تحت تهديد الهدم، لأن ابنه نفّذ عملية مقاومة ضد المستوطنين.
العائلة لا تُحاكم، لكنها تُعاقب. الجريمة في القانون الإسرائيلي ليست فعلاً فردياً، بل إرثاً جماعياً يجب أن يُمحى.
الأم تنظر إلى الجدران بحسرة، تتحدث إليها كما لو كانت تحتضر. “هذا البيت فيه كل ما نملك”، قالت، “لا شيء لدينا خارجه. أين نذهب؟” لا جواب، ولا أحد يسأل.
برطعة وأريحا ونابلس.. الخريطة تتشظى تحت الجرافات
من برطعة في أقصى الشمال، إلى أريحا في الشرق، مرورا بنابلس وسلفيت، المشهد واحد، تتغير فيه الأسماء وتبقى المعاناة ذاتها.
في نابلس، انهارت عمارات كاملة بقرار عسكري. في أريحا، هُدمت منازل بحجة التوسّع دون ترخيص. وفي برطعة، لم تُمنح العائلات وقتاً حتى لإخراج صور أبنائها من الغرف.
القصص التي لا تُروى أكثر من تلك التي تُوثق. أمّ في الخليل كانت تُطعم أطفالها حين اقتحم الجنود بيتها وأجبروها على المغادرة. طفل في سلفيت فقد كُرّاساته المدرسية وألعابه المفضلة تحت الأنقاض.
في كل قصة، هناك حزن فردي يعبّر عن جرح وطني أكبر، تُهدم فيه المنازل بذرائع قانونية، لكنها في الحقيقة ضربات ممنهجة لهوية شعب كامل.
لا منفى بعد البيت.. فقط الفراغ
في كل بيت يُهدم، هناك قصة لا تُكتب، هناك مستقبل يُسحق. الهدم لا يطاول الجدران فحسب، بل يطال ما بُني داخلياً خلال سنوات طويلة: الأمان، والذكريات، والمستقبل.
في الضفة الغربية، لا شيء محصن. لا منزل يُعد آمناً، ولا عائلة تضمن ليلتها القادمة. السكان يعيشون في حالة من الترقب الدائم، حيث يتحول البيت إلى عبء، وليس إلى ملاذ.
وفي ظل صمت دولي فاضح، وبيانات إدانة لا تسمن ولا تغني، يُترك الفلسطيني وحده أمام الجرافة، يواجه قسوة الاحتلال بلا حماية، وبلا سند، وبلا سقف فوق رأسه.