لا يُفهم أداء “حزب الله” وتصرّفاته حتى في زمن الحرب في الجنوب على أنه أداء منعزل عن توجيهه رسائل الى الداخل ومن يعنيه من دول إقليمياً ودولياً. ولذلك ينظر بريبة الى ما يعتبره البعض إيغالاً في دفع لبنان الى صيغ ما قبل الحرب الأهلية من خلال إعادة الوهج الى التنظيمات الفلسطينية الراديكالية وتحويل بيروت عاصمة للقوى “الممانعة” في أحسن الأحوال أو إيغاله وفق ما يعتبر البعض الآخر في “تقويض” صيغة لبنان واقعياً تبعاً لمنطق يتبعه لا يفهم من خلاله كيف يمكن خدمة مصلحة لبنان ومستقبله عبر ما يقوم به، إذ إن الأمر بات يطرح إشكالية كبيرة جداً في ظل استمراره في تغييب وجود مؤسسات الدولة وفي تحوّل المسؤولين في الدولة الى ناطقين باسم الحزب فحسب. وكان يمكن أن يكون ذلك مقبولاً لو أن هناك رؤية واضحة للموضوع الجنوبي وموقف لبنان منه أو أن هناك مفهوماً استراتيجياً وهدفاً لكي يصل إليه وتحديد السبل للوصول الى ذلك. وهذا يفترض أن يمكن الحزب الدولة اللبنانية من مرونة معينة تسمح لها بتحقيق مصلحة لبنان أو أن يكون منسجماً مع مواقفه بأنه يدافع عن لبنان لكي يمكن الدفاع عن ذلك فيما منطقه لم يكن منسجماً حتى في الزعم أن ما يقوم به هو حرب استباقية لتجنب حرب إسرائيلية على لبنان بعدما تجنّب القيام بها خلال 17 عاماً منذ حرب تموز 2006.
والحزب على هذه الخلفية بات يحدث مخاوف كبيرة وتشدداً أكبر في الداخل وانقساماً على خلفية عدم إمكان التنازل للحزب في أي شكل من الأشكال في موضوع الحرب عبر الحدود أو في موضوع رئاسة الجمهورية الى درجة أن حليفه في تفاهم مار مخايل لا يستطيع تبرير ذلك أو تغطيته ويشكل له إحراجاً كبيراً. لكن هذا موضوع آخر فيما القلق هو من الكشف عن اجتماعات للامتدادات الموالية لإيران في المنطقة في بيروت، أريد منها الإعلان عن ذلك عن عمد كرسالة أساسية حول قيادة الحزب ومسؤوليته المتقدمة في هذا الإطار كما أريد منه توجيه رسائل على الأقل في اتجاه أن الهدنة المرتقبة في غزة سواء تم الوصول إليها قريباً أو لا، فإن الاستعدادات قائمة لدى هذه الامتدادات الإيرانية لمواصلة حرب الاستنزاف التي تخوضها إسرائيل في غزة في شكل أساسي كما في الجنوب اللبناني.
فهذه الفجاجة في الإعلان رسمياً وعلناً عن ربط لبنان عبر ما يُسمّى “وحدة الساحات” تعني أنه يقود لبنان الى الخيارات التي يريدها من دون الأخذ في الاعتبار أي مقومات لا للدولة ولا لمؤسساتها أو لمواقف القوى السياسية أو الطوائفية من حلفاء وغير حلفاء. وهو الأمر الذي يعني أن أمن لبنان بات مرتبطاً بغزة ومع استبعاد اجتياح إسرائيلي لاعتبارات تتصل بعدم قدرة إسرائيل على الغرق في الرمال اللبنانية مجدداً، فإن الاستنزاف قد يغدو واقعاً أو أمراً لا مفر منه تماماً على غرار ما يحصل في غزة راهناً. ذلك أن الحرب العسكرية على القطاع لم تعد كما في الاشهر الماضية وإن لم تتوقف فيما العمليات العسكرية من اقتحامات وتفجير وقتل لم تعد تحتل الكثير من الواجهة فيما حل مكانها أمران:
أحدهما هو الجانب الإنساني الكارثي الذي يستقطب اهتمام دول العالم ومخاوفها من حرب تجويع بدلاً من حرب الإبادة بالسلاح وصولاً الى ضغوط باتت تمارسها الولايات المتحدة عبر اقتراحها مسوّدة قرار أمام مجلس الأمن الدولي تطالب صراحةً ولأول مرة، بـ”وقف فوري ودائم للنار” في الوقت الذي كانت الإدارة الأميركية قد عارضت منذ تشرين الأول الماضي ثلاثة قرارات تطالب بوقف دائم للنار في غزة. وهذا الضغط مرتبط بواقع تأكيد نتنياهو أنه مهما كانت نتيجة التفاوض الجاري حول الهدنة فإن حكومته تهدّد بالدخول الى رفح.
وما يزيد من وطأة هذا الضغط دعوة وجّهها أيضاً المرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أجل إنهاء الحرب على قطاع غزة، مشدداً على “الحاجة إلى السلام” كما قال. والأمر الآخر هو المتعلق باستعدادات إسرائيل لمواصلة الحرب على رفح وتهديدها الواضح بذلك وفق ما انتهت إليه الحكومة الإسرائيلية.
يضاف الى ذلك أن كل التفاوض لا يزال يجري على هدنة بما تعكسه من منطق استمرار الحرب في حد ذاتها وليس وقفها وهذا يعني أن حال الحرب ستستمر قائمة على الأقل لبضعة أسابيع إضافية إن لم توضع خلالها أسس وقف طويل للنار. وهي ارتبطت بوجوب حصولها قبل بدء شهر رمضان ومرّ أسبوع منه فيما مرور أسابيع أخرى منه قد يضعف حافزاً أو مبرراً مهماً للقبول بالهدنة والسير بها. هذا عدا عن واقع أن الحكومة الإسرائيلية هي من الحكومات الأكثر راديكالية وتطرفاً وأن وقف الحرب قد يودي بنتنياهو واستمراره السياسي، وهي وضعت سقفاً عالياً جداً لأهدافها بحيث بات يصعب عليه النزول عن الشجرة بسهولة. لكن الضغط الحقيقي على إسرائيل إن كان سينجح فهو عبر الضغط الأميركي كما أقر الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله بنفسه لا من الضغط القوي والحاسم فعلاً من الساحات “الممانعة”.
وهذا تقويم لا يختلف عليه الكثير من المراقبين من ديبلوماسيين وسياسيين ولا سيما في العواصم الكبرى وخاصة في واشنطن، ولكن ما يعني لبنان منه هو استرهانه لهذه الحسابات الإسرائيلية من جهة وحسابات الامتدادات الإيرانية من قوى “ممانعة” من جهة أخرى.
ثمة انطباع يصعب دحضه أن الحزب يدفع الوضع الداخلي الى حافة الهاوية في موازاة ممارسته الهواية ذاتها جنوباً.