لا تزال الأزمة في السودان عميقة ومدمرة، ويتجاهلها المجتمع الدولي إلى حد كبير. ومع استمرار الصراع وتفاقم معاناة الشعب السوداني ، تبدو آفاق الحل ضئيلة بشكل متزايد.
ورغم أن هذا قد يبدو ظاهريا وكأنه مواجهة بين فصيلين متحاربين، فإن الديناميكيات الأساسية أكثر تعقيدا بكثير ــ فهي تتشكل بفعل الانقسام السياسي الداخلي، ويستغلها الجهات الفاعلة العالمية استراتيجيا لإلقاء الظلال على حوكمة الحرب في السودان.
بعد أن استعادت القوات المسلحة السودانية مؤخرا مساحات شاسعة من الأراضي من قوات الدعم السريع – بما في ذلك أم روابة في شمال كردفان، وأجزاء كبيرة من سنار والجزيرة والخرطوم – أعلن رئيس أركان الجيش عبد الفتاح البرهان عن التشكيل الوشيك لحكومة جديدة.
وقال البرهان في إعلانه خلال كلمة له أمام القوى السياسية المدنية في بورتسودان، إن الحكومة المتوقعة يمكن أن تكون “إما حكومة تصريف أعمال أو حكومة حرب”، بهدف دعم القوات المسلحة السودانية في “تحرير السودان من المتمردين”.
وتعزز إعلانه بنشر وزارة الخارجية السودانية خارطة الطريق للسلام، والتي حددت عدة خطوات رئيسية، بما في ذلك إطلاق حوار وطني شامل، وتشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط المستقلين، والتعديلات الدستورية التي حصلت على دعم واسع النطاق.
كما أشارت خارطة الطريق إلى أن “إلقاء السلاح وإخلاء المدنيين شرطان أساسيان لأي محادثات مع المتمردين. ولن يُقبل أي وقف لإطلاق النار إلا برفع الحصار عن الفاشر، وانسحاب قوات الدعم السريع من الخرطوم وغرب كردفان وولايات دارفور”.
وتأتي هذه التطورات في الوقت الذي انحلت فيه تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية السودانية (تقدم) مؤخرًا إلى تحالفين منفصلين لكل منهما رؤيتان مختلفتان.
تحالف المعارضة
أعلنت غالبية الفصائل المدنية المتحالفة سابقًا مع قوى الحرية والتغيير، والتي كانت جزءًا من حزب التقدم، عن تشكيل تحالف سياسي جديد مُكرّس لإنهاء الحرب. يُطلق على هذا الكيان الجديد اسم “التحالف المدني الديمقراطي للقوى الثورية”، ويقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، مما يعكس إعادة تنظيم استراتيجية بين الأطراف السياسية المدنية الفاعلة.
في المقابل، عززت غالبية الجماعات المسلحة، إلى جانب بعض الجهات التي انحازت إلى قوى الحرية والتغيير بعد انقلاب 2021، مواقعها ضمن تحالف معارض يهدف إلى تدشين حكومة موازية في المناطق الخاضعة حاليًا لسيطرة قوات الدعم السريع. والجدير بالذكر أن الاسم الرسمي لهذا التحالف أُعلن عنه لاحقًا في مؤتمر عُقد في نيروبي باسم ” تحالف تأسيس السودان “.
تأسس تحالف التقدم، الذي يضم بعض كيانات قوى الحرية والتغيير وعددًا من منظمات المجتمع المدني، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وعقد مؤتمره الافتتاحي في ربيع العام التالي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وقد حُلّ التحالف في وقت سابق من هذا الشهر في اجتماع افتراضي، وسط خلاف حول تشكيل حكومة موازية. وجاء هذا نتيجةً لتنسيق جيد بين قوات الدعم السريع وحلفائها في تحالف التقدم، الذي اندثر بعد حله.
تأسست قوى الحرية والتغيير، وهي تحالف مؤيد للثورة يضم الأحزاب السياسية الديمقراطية ومجموعات المجتمع المدني، خلال الثورة الثالثة في السودان.
انطلقت تحالف تأسيس السودان في نيروبي يوم 18 فبراير/شباط، حيث ناقش زعماء وحلفاؤه من قوات الدعم السريع ميثاقًا من شأنه أن يضع الأساس لحكومة موازية.
ومن بين الحاضرين عبد العزيز الحلو زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وإبراهيم الميرغني القيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي، وفضل الله برمة ناصر زعيم حزب الأمة القومي، الذي جاء حضوره بمثابة صدمة، حيث يعارض حزبه تشكيل حكومة موازية.
وصف رباح الصادق، القيادي البارز في حزب الأمة القومي، مشاركة ناصر بأنها “انتحار سياسي له ومحاولة لتصفية الحزب”. كما أصدر الحزب بيانًا أشار فيه إلى أنه “لم يُفوض” ناصر أو أي عضو آخر بتمثيله في مؤتمر نيروبي.
ألقى الحلو كلمةً رئيسيةً في الجلسة ، وقال: “أوراق الدين والقبيلة والعرق مجرد عوائق تستخدمها النخب الحاكمة في الخرطوم لإقصاء من هم خارج الدائرة، ونريد وضع حدٍّ لهذا الأمر ابتداءً من اليوم”.
بعد ساعات قليلة من الجلسة الافتتاحية، أدانت وزارة الخارجية السودانية استضافة كينيا للمؤتمر، مشيرةً إلى “تجاهلها لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، والقانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”. كما أدانت الوزارة، على نحو منفصل، مجزرة ارتكبتها قوات الدعم السريع في قرية الجتينة بولاية النيل الأبيض، وأودت بحياة 433 شخصًا، بينهم أطفال حديثو الولادة.
خطر الانفصال
ولم تعتذر الحكومة الكينية عن هذا الأمر ، موضحة أن استضافة المؤتمر تأتي في سياق دعم السلام من خلال توفير منصة غير حزبية للأطراف المتضررة، والإشارة إلى تاريخ كينيا الطويل في حل النزاعات داخل القارة.
قد تؤدي المخاوف من أن حكومةً مدعومة من قوات الدعم السريع قد تواجه صعوبةً في اكتساب الشرعية الدولية إلى الاعتقاد بأن هذا التطور مجرد دعاية، وليس تهديدًا حقيقيًا للاستقرار السياسي في السودان. لكن سيناريوهاتٍ متعددة لا تزال واردة، وتؤكد أحداث نيروبي عجز النظام السياسي السوداني عن حل أزماته بشكل مستقل.
إن تشكيل حكومة موازية أثناء صراع نشط من شأنه أن يشير إلى خطر جدي بالانفصال، مما قد يؤدي إلى تقسيم السودان للمرة الثانية، بعد استقلال جنوب السودان في عام 2011. ولكن الظروف اليوم تختلف بشكل كبير.
حقق جنوب السودان استقلاله عبر استفتاء سلمي مارس فيه شعبه حقه في تقرير المصير، مما أدى إلى خسارة السودان منطقةً ذات أهمية تاريخية وسياسية. ومن المرجح أن يكون أي انفصال مستقبلي داخل السودان مكلفًا للغاية، مدفوعًا بصراع عنيف ومعاناة إنسانية جسيمة.
إن إنشاء حكومة جديدة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع لن يشكل تحديًا للسلطة السياسية لحكومة بورتسودان فحسب، بل قد يؤدي أيضًا إلى تفاقم التوترات العرقية، وتصاعدها إلى عنف واسع النطاق يمكن أن يهدد استقرار البلاد ويمهد الطريق لحرب جديدة.
رغم هذه التحديات، لا يزال أمام السودان فرصةٌ للحفاظ على اللحمة الوطنية ووحدته. ويتطلب تحقيق ذلك إرادةً سياسيةً قوية، وشعورًا راسخًا بالمسؤولية الوطنية، والتزامًا بإعطاء الأولوية للمصالح الجماعية للبلاد ومواطنيها في السعي إلى حلٍّ مستدام للأزمة الراهنة.
في نهاية المطاف، تقع مسؤولية إنهاء هذه الحرب بالدرجة الأولى على عاتق الشعب السوداني – وخاصةً المدنيين – طالما ظل المجتمع الدولي غير متورط. وفي ظل التحولات الكبيرة في النظام الجيوسياسي العالمي، فإن احتمال التدخل الخارجي الجوهري يبقى مشكوكًا فيه.
رغم وجود مؤشرات عديدة تُشير إلى فشل حكومة موازية، لن يعود السودان كما كان بعد مؤتمر نيروبي. وهكذا، انطلقت شرارة تاريخ جديد من التشرذم – قصة أخرى من قصص بلد بحكومتين.
Middle East eye