حظي الحوار الذي أجراه المبعوث الأميركي الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف مع المذيع تاكر كارلسون على منصة إكس، الجمعة، باهتمام كبير في القاهرة، خاصة الجزء الذي حذر فيه من سقوط النظام المصري، ومع أن الحديث تناول قضايا إقليمية ودولية عديدة، إلا أن هذا الجزء كان محل تركيز، وهذا أمر طبيعي لأهمية الموضوع، لكن غير الطبيعي هو تعدد القراءات له وخروجها أحيانا عن سياقها.
هناك قراءة، قالت إن الرجل يحذر مصر من عواقب مواقفها، وأوحى بعقاب ينتظرها بسبب رفضها تهجير جزء من سكان قطاع غزة إليها، وهو ما استغله أنصار النظام المصري لنفي اتهامات نشرتها صحيفة لبنانية قبل يومين حول موافقة مصر على استقبال نصف سكان غزة في شمال سيناء، واتخذ هؤلاء من حديث ويتكوف دليلا على عدم رضوخ القاهرة للإدارة الأميركية، إلى نهاية سردية حوت تقديرات متباينة، حسمتها هيئة الاستعلامات المصرية بعدم تغير موقف القاهرة الرافض للتوطين.
وهناك قراءة ثانية، ذهبت إلى أن الولايات المتحدة تستغل الأزمة الاقتصادية الحادة في مصر والشحن العاطفي تجاه ما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، والتي تشجع على خروج مظاهرات واحتجاجات جديدة في شوارع وميادين مصر، خاصة أن مبالغة ويتكوف في حديثه عن البطالة (45 في المئة) جرى توظيفه بشكل سلبي، لأن معدل البطالة الحقيقي العام الماضي لم يتجاوز 7 في المئة، واعتبر تقديره الخاطئ يرمي إلى زيادة الاحتقان في البلاد، وعدم دقة المعلومات التي ترددها واشنطن.
وهناك قراءة ثالثة، أشارت إلى أن حديث ستيف ويتكوف ينطوي على تحذير لإسرائيل من مغبة ما تقوم به من انتهاكات جسيمة في غزة، يمكن أن تنخرط فيها مصر أو تتأثر بتداعياتها ويحدث اهتزاز داخلي فيها، وتنشب صراعات مضاعفة في المنطقة تؤدي إلى فوضى وانفلات وفقدان للسيطرة على الأوضاع الإقليمية، ما يضر بمصالح إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا.
اللافت للانتباه أن حوار ستيف ويتكوف مع تاكر كارلسون على منصة إكس أكد أن المبعوث الأميركي رجل غير دبلوماسي، لأن الطريقة التي تحدث بها حوت قدرا كبيرا من العفوية إلى حد الالتباس، وربما يكون المقصود بها الوصول إلى هذه الحالة من القراءات المتعددة، فلم يخل الحديث من إشادة بأهمية استقرار مصر في المنطقة، والمخاوف التي سوف تنجم عن اكتظاظها بالسكان إذا حدث مكروه لها أو تغيير عنيف بها، وما يمكن أن يمثله ذلك من أضرار إستراتيجية.
تباين القراءات لا يلغي أن استقرار مصر مسألة مهمة لدول عدة، في مقدمتها الولايات المتحدة، ما يشي بأن حديث المؤامرة الغربية الذي يظهر ويختفي حسب الحاجة إليه فيه مبالغة، ومن المؤكد أن ثمة دولا تريد إضعاف مصر وإغراقها في مشاكلها وأزماتها وهمومها، لكن أيضا توجد قوى إقليمية ودولية حريصة على عدم حدوث المزيد من الفوضى بالمنطقة، سوف تفضي في النهاية إلى خسائر كبيرة تؤثر على مصالحها.
تعلم القيادة السياسية في مصر، الأهمية التي يمثلها بلدهم بالنسبة إلى قوى كبرى، وهي على يقين أن العالم لن يتحمل حدوث خلل في المفاصل الرئيسية للدولة، وعندما جرى التلويح بورقة التوطين في بداية حرب غزة، ظهرت إشارات مصرية بأن هناك الملايين من المقيمين والمهاجرين واللاجئين سوف يتجه عدد كبير منهم إلى شمال البحر المتوسط إذا حدثت فوضى في مصر، وهي رسالة واضحة إلى أوروبا بعدم ممارسة ضغوط في ملف توطين الفلسطينيين، وحث قادتها على تقديم مساعدات سخية للقاهرة كي تتمكن من سد جزء معتبر من احتياجاتهم الاقتصادية.
ويفهم من هنا أن حديث ويتكوف عن مصر هو أشبه بتحذير لنظامها، لأنه على يقين أن سقوطه بخشونة أو من خلال فوضى ستحصل من خلاله إيران ومحورها على تفوق نوعي في المنطقة، يزيد من دوائر الصراع فيها، ويجد المتطرفون منفذا يعيد إليهم قوتهم، بما لا يجعل إسرائيل في راحة إستراتيجية أو قدرة على إعادة هندسة الأوضاع في الشرق الأوسط على مقاسها.
تظل القاهرة في النظرة الخفية لويتكوف رمانة ميزان تحتاجها الولايات المتحدة وأوروبا وبعض الدول العربية المهمة حاليا، ولن يقبلوا إلحاق أذى بها يتسبب في خلط الكثير من الأوراق التي يتم ترتيبها، وهو ما يدركه المبعوث الأميركي وجعل القراءة الهادئة لحديثه عن مصر تحوي مضمونا جيدا، أدنى حالة سلبية له تؤكد أنه صرخة للتحذير من ممارسة ضغوط قاسية على مصر، لأنها لن تقدم تنازلات جوهرية تؤدي إلى تحولات كبيرة في طبيعة توجهاتها الإستراتيجية.
ويتعزز هذا الاستنتاج بعاملين. الأول: ثبات الموقف المصري من غزة حتى الآن، على الرغم من رسائل التهديد التي واجهتها وشهادات الإغراء الاقتصادي التي قدمت إليها. والثاني: الوسطية أو بمعنى أدق البراغماتية بمفهومها العملي الدارج في تعاملها مع القضايا الإقليمية، ما أوصلها إلى طرح خطة تتخطى مسألة إعادة إعمار غزة وتصل إلى معالجة شاملة للقضية الفلسطينية، وحظيت بدعم واسع في القمة العربية الطارئة بالقاهرة، وبدأت نقاشات جادة مع قوى إقليمية ودولية، في مقدمتها الولايات المتحدة.
من هاجموا أو طربوا أو تحفظوا حول جزئية مصر في حديث ستيف ويتكوف مع تاكر كارلسون على منصة إكس، أخذ كل منهم الجانب الذي يعكس توجهاته السياسية، وفسره على الوجه الذي يتناسب مع رؤيته للموقف المصري أو الأميركي، وفي كل الأحوال هو علامة صحية على أن الرجل لم يقصد شيئا محددا، وأطلق العنان لتقديم رؤيته وفقا لتصرفاته المعتادة التي تحتاج إلى المزيد من الشرح في مواقف عديدة.
جاء سوء الفهم غالبا من الضباب والتبدل والتحول في رؤى الإدارة الأميركية التي تحمل في أحشائها تناقضات تصل إلى حد الارتباك، فويتكوف الذي تفاخر بإنجاز صفقة تبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس في يناير الماضي وأشاد بحنكة ورجاحة عقل الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو نفسه الذي جاء في مارس الحالي بمبادرة جديدة تنسف الصفقة السابقة، وجرى تكييفها مع أهداف رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، بمعنى أن حديثه عن مصر إذا كان يحوي مضامين إيجابية يمكنه أن يتبنّى أخرى سلبية، أو العكس، ما يدعم القول إن نسبة التغير في قناعات واشنطن مرتفعة للغاية في القضايا الفرعية.
أما القضايا المركزية، وفي مقدمتها العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر، لا تحتمل تخمينات وتكهنات واستنتاجات مغلوطة، لأن المنعطفات التي مرت بها خلال العقود الماضية جعلتها لا تهتز كثيرا أمام خلافات قد تحدث حول ملفات إقليمية معينة، وسرعان ما يتم تطويقها، لأن الخسارة الناجمة عن تحول الخلاف إلى صدام مضر بمصالح الطرفين، ما يجعل حديث ويتكوف عن مصر في عداد التحذير وليس التهديد.