القدس – تقرير خاص
لطالما كانت القدس نقطة التقاء الحضارات والأديان، ومدينة ذات قدسية خاصة لليهود والمسلمين على حد سواء. لكن بالرغم من الدعوات المتكررة لتحقيق التعايش بين اليهود والمسلمين فيها، يظل الواقع السياسي والتاريخي عقبة أمام أي محاولة لجعل هذه المدينة نموذجًا للسلام المشترك. في هذا التقرير، نسلط الضوء على أسباب صعوبة التعايش، مستندين إلى شهادات من شخصيات فلسطينية وإسرائيلية تؤكد أن القضية تتجاوز السياسة إلى صراع وجودي عميق.
التاريخ المثقل بالصراعات
منذ قرون، كانت القدس مسرحًا للنزاعات الدينية والسياسية. الصراعات بين المسلمين واليهود تعود إلى قرون، لكنها تفاقمت في العصر الحديث بسبب المشروع الصهيوني والاحتلال الإسرائيلي للمدينة. حرب 1948 التي أدت إلى تهجير الفلسطينيين، ثم احتلال القدس الشرقية عام 1967، عززت الشعور بالظلم لدى الفلسطينيين، ما جعل إمكانية العيش المشترك تتضاءل مع مرور الزمن.
حسام الكردي، ناشط مقدسي، يقول: “عندما تم تهجير جدي من منزله في حي البقعة عام 1948، قيل له إنه يمكنه العودة بعد انتهاء الحرب. لكنه لم يعد أبدًا. نحن لا نرى في القدس مدينة يمكن أن يتقاسمها الجميع، بل نراها مدينة فلسطينية يتم تهويدها بالقوة. كل يوم، أشاهد المنازل الفلسطينية تُهدم بينما تُبنى وحدات استيطانية مكانها. هذا ليس صراعًا سياسيًا فحسب، بل هو محاولة لإلغاء وجودنا بالكامل. التعايش يعني الاعتراف بنا كشعب له حقوق، لكن الواقع يقول إن هناك طرفًا يريد إقصاء الآخر.”
السياسات الإسرائيلية التمييزية
تتبع إسرائيل سياسات تهدف إلى فرض واقع ديموغرافي جديد في القدس عبر الاستيطان وهدم المنازل الفلسطينية وسحب الهويات من سكان المدينة العرب. هذه الممارسات تجعل الفلسطينيين يشعرون بأنهم غرباء في مدينتهم، وتؤجج مشاعر الغضب والرفض، مما يعزز مناخ العداء ويجعل فكرة التعايش مستبعدة.
ديفيد بن يعقوب، مستوطن إسرائيلي في القدس، يقول: “القدس هي العاصمة الأبدية للشعب اليهودي. نحن هنا لنعيش ونعيد أمجاد أجدادنا. إذا كان الفلسطينيون لا يقبلون بذلك، فالمشكلة ليست فينا. لن نغادر هذه المدينة، بل سنستمر في البناء والتوسع.” ثم يضيف: “أنا أفهم أن الفلسطينيين يشعرون بالظلم، ولكن هذه أرضنا بحسب التاريخ والدين، ونحن لن نتنازل عنها. ربما يأتي يوم ونجد صيغة للتعايش، لكن ليس على حساب حقنا في السيطرة على المدينة.”
التوترات الدينية حول المسجد الأقصى
يُعد المسجد الأقصى بؤرة التوتر الأكثر حساسية في العلاقة بين المسلمين واليهود في القدس. محاولات الجماعات اليهودية المتطرفة اقتحام الأقصى، والحديث المتكرر عن تقسيمه زمانيًا ومكانيًا، يثير مخاوف الفلسطينيين والمسلمين حول العالم. هذه الاعتداءات المتكررة تجعل المسلمين يرون في اليهود مصدر تهديد مباشر لمقدساتهم، مما يزيد الفجوة بين الطرفين.
الشيخ عبد الرحمن الصالح، أحد أئمة المسجد الأقصى، يقول: “ما يحدث في الأقصى ليس مجرد صراع على موقع ديني، بل هو محاولة لتغيير هوية القدس بالكامل. الاحتلال يريد أن يفرض واقعًا جديدًا، ونحن نرى أن المعركة هنا ليست سياسية فقط، بل هي معركة وجود. لا يمكن أن نتحدث عن تعايش بينما يُمنع الفلسطينيون من دخول الأقصى بحرية، بينما يُسمح للمستوطنين المسلحين بالدخول تحت حماية الشرطة. إذا أرادوا السلام، فليتوقفوا عن استفزاز مشاعر المسلمين بهذا الشكل.”
محاولة فلسطينية للتواصل مع اليهود
في محاولة لإظهار استعداد الفلسطينيين للتعايش، أنشأ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وزارة شؤون اليهود في حكومته، وهي خطوة غير مسبوقة تهدف إلى تعزيز الحوار مع اليهود الفلسطينيين وإيجاد أرضية مشتركة للتفاهم. ورغم أن هذه الخطوة لم تؤتِ ثمارها بسبب استمرار الصراع، إلا أنها كانت مؤشرًا على أن الفلسطينيين لا يرفضون التعايش من حيث المبدأ، بل يعارضون السياسات الإسرائيلية التي تمنع تحقيقه.
غياب العدالة والانحياز الدولي
يشعر الفلسطينيون بأن النظام العالمي، بما في ذلك الأمم المتحدة والقوى الكبرى، يتعامل بانحياز لصالح إسرائيل. الفشل في تنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالقدس، ودعم بعض الدول الغربية لإسرائيل سياسيًا وعسكريًا، يعمّق مشاعر الإحباط لدى الفلسطينيين، ويجعل أي حديث عن تعايش مشترك غير ذي معنى بالنسبة لهم.
مريم حمدان، باحثة فلسطينية في شؤون القدس، تقول: “الحديث عن السلام والتعايش يصبح مجرد وهم عندما نرى كيف تتجاهل القوى الكبرى معاناة الفلسطينيين. القرارات الدولية واضحة، لكن لا أحد يطبقها. كيف يمكن لنا أن نثق بالعالم بينما نرى بأعيننا المستوطنات تتوسع رغم كل القوانين التي تمنع ذلك؟ لن يكون هناك سلام أو تعايش ما لم يكن هناك التزام حقيقي بالعدالة، وليس مجرد شعارات تُطرح في المؤتمرات.”
انعدام الثقة بين الجانبين
على مدار العقود الماضية، ترسّخ انعدام الثقة بين الفلسطينيين واليهود في القدس. الفلسطينيون يرون أن إسرائيل تريد تهويد المدينة بالكامل وطردهم منها، بينما يخشى اليهود من أي حكم فلسطيني قد يهدد وجودهم. هذه المخاوف المتبادلة تجعل من الصعب تحقيق تعايش سلمي حقيقي.
دانيئيل شتاين، محلل إسرائيلي، يقول: “الإسرائيليون لا يثقون بالفلسطينيين، والفلسطينيون لا يثقون بنا. هناك خوف متبادل، وهذا الخوف هو العائق الأكبر أمام أي محاولة لتغيير الواقع.” ثم يوضح: “في كل مرة تحدث هجمات أو مواجهات، تزداد الفجوة بين الجانبين. كثير من الإسرائيليين مقتنعون بأن الفلسطينيين يريدون إبادتنا، وكثير من الفلسطينيين مقتنعون بأننا نريد طردهم بالكامل. في ظل هذا المستوى من الكراهية المتبادلة، كيف يمكن الحديث عن تعايش حقيقي؟”
و على الرغم من المحاولات الدولية لإيجاد حلول سلمية للصراع في القدس، يظل التعايش بين المسلمين واليهود في هذه المدينة أمرًا صعب التحقيق في ظل الظروف الحالية. الصراع ليس مجرد خلاف ديني، بل هو صراع سياسي وجغرافي وهوياتي معقد. طالما استمرت السياسات الإسرائيلية التوسعية، وظل الفلسطينيون محرومين من حقوقهم الأساسية، فإن الحديث عن التعايش سيبقى مجرد أمنية بعيدة المنال.