بيروت – يأتي العيد إلى لبنان هذا العام مثقلاً بأثقال الواقع، حيث لا زينة في الشوارع، ولا ازدحام في الأسواق، ولا بهجة تُرسم على وجوه الأطفال. ففي بلدٍ يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، وينوء بحمل دمار الحرب، ويعيش في ظل تهديدات أمنية متزايدة، تحوّل العيد إلى مناسبة رمزية تُذكّر اللبنانيين بسنوات الازدهار التي ولّت، وتتركهم في مواجهة حاضرٍ قاتم ومستقبلٍ غامض.
الأسواق خالية.. والفرحة ترف لا يقدر عليه الجميع
في الأيام التي كانت تسبق الأعياد، اعتادت الأسواق اللبنانية أن تضج بالحركة، وأن تتزين واجهات المحلات بالثياب الجديدة، وأن تعبق الشوارع برائحة الحلويات التقليدية. أما اليوم، فالصورة مغايرة تمامًا: المحلات شبه فارغة، والتجار يشكون من تراجع المبيعات بشكل غير مسبوق. الأسعار التي تضاعفت بفعل الانهيار المستمر للعملة الوطنية جعلت شراء الملابس الجديدة رفاهية لا يقدر عليها سوى قلة، فيما تحوّل شراء الحلوى إلى أمر ثانوي أمام أولويات أساسية مثل تأمين الغذاء والدواء.
“العيد فقد معناه”، تقول أم حسن، وهي أم لثلاثة أطفال تتجول في سوق الحمرا بحثًا عن قطعة ملابس بأسعار معقولة. وتضيف: “كنا نفرح بتجهيز العيد، لكن اليوم الأولوية للأكل ودفع الفواتير، لم يعد بإمكاننا التفكير في أمور أخرى”.
انهيار اقتصادي يبدد طقوس العيد
أدى الانهيار الاقتصادي المستمر منذ سنوات إلى تراجع القدرة الشرائية لدى اللبنانيين إلى مستويات غير مسبوقة. ومع انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار، وارتفاع معدلات التضخم، بات متوسط دخل المواطن عاجزًا عن تغطية الاحتياجات الأساسية. الكهرباء مقطوعة لساعات طويلة، والمياه شحيحة، والمواصلات باتت مكلفة في ظل ارتفاع أسعار المحروقات.
يقول الخبير الاقتصادي سامي نادر: “لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية في تاريخه الحديث، إذ فقدت الليرة أكثر من 98% من قيمتها، وتجاوز التضخم نسبة 250%، في حين أن الحد الأدنى للأجور لم يعد يكفي حتى لتغطية الاحتياجات الأساسية”.
في ظل هذه الظروف، غابت مظاهر العيد من المنازل، وأصبح الاحتفال به أقرب إلى ترفٍ لا يقدر عليه كثيرون. العائلات التي كانت تُعد الولائم باتت بالكاد قادرة على توفير اللحوم، والعديد من العائلات لم تعد قادرة حتى على شراء الكعك التقليدي، الذي تحوّل سعره إلى عبء إضافي.
شبح الحرب.. الخوف الذي يخنق العيد
وسط هذه الأزمة الاقتصادية، لا يبدو أن اللبنانيين يعيشون فقط هاجس الفقر والجوع، بل يواجهون أيضًا مخاوف أمنية متزايدة. التصعيد العسكري بين حزب الله وإسرائيل في الجنوب اللبناني، والضربات المتبادلة التي تتزايد حدتها، جعلت اللبنانيين يعيشون في حالة ترقب وخوف دائم.
“لا أحد يعرف ما الذي سيحدث غدًا”، يقول محمد، وهو صاحب متجر في صور. “كل ما نعرفه أن البلد يسير نحو المجهول، وأن أي تصعيد جديد قد يجرّنا إلى حرب مدمرة”.
المخاوف من عودة الحرب لا تقتصر على الجنوب فقط، بل تمتد إلى الداخل اللبناني، حيث تعيش البلاد حالة من الانقسام السياسي العميق، وسط غياب أي حلول للأزمة المستمرة. ومع تصاعد التوترات الإقليمية، لا يبدو أن لبنان بمنأى عن أي تطورات قد تجرّه إلى جولة جديدة من العنف.
العيد بين الألم والأمل
على الرغم من كل شيء، يحاول بعض اللبنانيين الحفاظ على تقاليد العيد ولو بالحد الأدنى. في بعض الأحياء الفقيرة، تتجمع العائلات لتبادل التهاني بأبسط الوسائل، ويحاول الأهالي توفير ولو قطعة حلوى للأطفال لإدخال السرور إلى قلوبهم.
يقول الحاج أبو علي، وهو رجل سبعيني جلس أمام منزله في أحد أحياء بيروت القديمة: “شهدنا حروبًا كثيرة، وأزمات لا تُعد ولا تُحصى، لكننا بقينا صامدين. هذه ليست المرة الأولى التي يأتي العيد ونحن في محنة، ولن تكون الأخيرة”.
لكن الصمود وحده لم يعد كافيًا، فلبنان يحتاج إلى أكثر من مجرد قدرة على التحمل، يحتاج إلى حلول جذرية توقف الانهيار، وتعيد إليه أمنه واستقراره. وإلى أن يتحقق ذلك، سيظل العيد في لبنان مناسبة رمزية لا تحمل معها سوى الحنين لأيامٍ أجمل، وانتظارًا طويلاً لأملٍ قد يأتي، أو لا يأتي.