مع استئناف الحرب في غزة بعد انهيار الهدنة، لاحظ المراقبون أن إيران تتعامل مع التصعيد الإسرائيلي الأخير ببرود غير معتاد، مقارنةً بخطابها التصعيدي السابق في الأشهر الأولى للحرب. هذا الهدوء، الذي يأتي بعد الضربة المباشرة التي وجهتها إيران لإسرائيل في أبريل الماضي، يثير تساؤلات حول ما إذا كانت طهران تعيد حساباتها الاستراتيجية، أم أنها تخشى ردة فعل أمريكية قد تستهدف منشآتها النووية في توقيت حساس.
لماذا تغير الخطاب؟
1️⃣ خوف من ضربة أمريكية على المنشآت النووية
يأتي التراجع الإيراني في وقت يتزايد فيه الحديث عن احتمال توجيه واشنطن أو إسرائيل ضربة استباقية للمنشآت النووية الإيرانية. وعلى الرغم من أن طهران اعتادت على التهديدات الغربية بشأن برنامجها النووي، إلا أن السياق الحالي يجعل الأمر أكثر خطورة. إدارة بايدن، التي كانت مترددة في مواجهة إيران بشكل مباشر، تجد نفسها الآن مضطرة لتوجيه رسائل ردع واضحة، خاصة بعد الضربة الإيرانية الأخيرة التي استهدفت إسرائيل. أي تصعيد جديد من طهران قد يمنح إسرائيل المبرر الذي تبحث عنه لتوجيه ضربة ضد المفاعلات النووية الإيرانية، وربما بدعم أمريكي غير مسبوق.
إيران، التي استثمرت عقودًا في برنامجها النووي، لن تخاطر بأي خطوة قد تؤدي إلى تدمير هذه القدرات أو تأخيرها لسنوات. ولذلك، من المنطقي أن تتبنى مقاربة “الهدوء التكتيكي”، خاصة في ظل التزامن بين الحرب في غزة والتصعيد الدبلوماسي الغربي ضد طهران.
2️⃣ استنزاف إسرائيل دون تكلفة مباشرة
من منظور استراتيجي، قد ترى إيران أن استمرار الحرب في غزة يخدم أهدافها دون الحاجة إلى تدخل مباشر. فكل يوم يمر، تتزايد عزلة إسرائيل دوليًا، ويتصاعد الضغط عليها بسبب الضحايا المدنيين والتكلفة الاقتصادية المتزايدة للحرب. إيران، التي تدرك أن الحروب لا تُحسم بسرعة، قد تراهن على استنزاف إسرائيل سياسيًا واقتصاديًا عبر إطالة أمد الصراع، بدلًا من الانجرار إلى معركة مفتوحة غير مضمونة النتائج.
3️⃣ حزب الله: ورقة غير محسومة بعد
رغم التهديدات المتكررة من حزب الله، فإن الحزب لم ينخرط في مواجهة شاملة مع إسرائيل، واكتفى بضربات محدودة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. هذا التردد يثير تساؤلات حول مدى قدرة إيران على استخدام حزب الله كورقة ضغط فعالة، خاصة بعد التحذيرات الأمريكية الصريحة بأن أي تصعيد من الحزب سيؤدي إلى تدخل عسكري أمريكي مباشر.
إيران، التي تدرك أن أي حرب واسعة في لبنان ستعني تدميرًا كبيرًا لبنية حزب الله العسكرية والسياسية، قد تكون فضلت إبقاء هذه الورقة جانبًا، والاكتفاء بالضغط من خلال التصعيد المحدود دون الانخراط في مواجهة لا يمكن التحكم بنتائجها.
4️⃣ التحولات في الموقف الصيني والروسي
رغم تحالف إيران مع كل من روسيا والصين، فإن أي مواجهة إيرانية مباشرة مع إسرائيل قد تعقد علاقاتها مع هذين البلدين، اللذين يحاولان الحفاظ على توازن في علاقاتهما الإقليمية. الصين، التي تعتبر أكبر مستورد للنفط الإيراني، لن تكون مرتاحة لرؤية شريكها الأساسي في مواجهة مباشرة قد تؤدي إلى اضطرابات في أسواق الطاقة. أما روسيا، التي تعتمد على إيران لدعم عملياتها في أوكرانيا عبر الطائرات المسيرة والأسلحة، فقد لا ترغب في رؤية طهران غارقة في حرب إقليمية قد تؤثر على قدراتها في تقديم الدعم لموسكو.
إيران تدرك أن أي تصعيد متهور قد يؤدي إلى خسارة هذه التحالفات الاستراتيجية، وهو أمر قد يكون له تبعات كارثية على مستقبلها الاقتصادي والعسكري.
الخلاصة: هل تلعب إيران لعبة النفس الطويل؟
بينما تواصل إسرائيل عملياتها في غزة دون أي تصعيد إيراني واضح، يبقى السؤال: هل تراهن طهران على استراتيجية النفس الطويل، أم أنها تنتظر اللحظة المناسبة للتدخل؟
البرود الإيراني الحالي قد يكون جزءًا من خطة أوسع للرهان على استنزاف إسرائيل سياسيًا واقتصاديًا، دون الحاجة إلى تدخل عسكري مباشر. لكنه في الوقت نفسه قد يعكس قلقًا حقيقيًا من رد فعل أمريكي أو إسرائيلي قد يكون أكثر حدة مما تتوقعه طهران. وفي كلتا الحالتين، يبقى موقف إيران في هذه الحرب معقدًا، بين التهديدات العلنية، والخطوات المحسوبة التي تحاول تجنب نقطة اللاعودة.