رغم مرور أكثر من ستة أشهر على اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا تزال التصريحات الصادرة من الداخل الإسرائيلي تكشف عن تعارض واضح بين الخطاب الرسمي والأهداف الفعلية للعملية العسكرية. أحدث هذه التصريحات جاءت من الجنرال المتقاعد نعوم تيبون، الذي أشار في حوار مع صحيفة معاريف إلى “عدمية” الخيار العسكري في سبيل تحرير الأسرى الإسرائيليين.
وقال تيبون، الذي يحمل في طيات صوته صوت العائلة، إذ أن شقيقه أحد المحتجزين في غزة: “طوال عام ونصف، قيل لنا إن الضغط العسكري وحده كفيل بإعادة الرهائن، ولكن خلال هذه الفترة، قُتل 41 رهينة على يد حماس أو في غارات جوية إسرائيلية. في النهاية، كانت صفقة هي التي أعادت الرهائن إلى ديارهم.”
الضغط العسكري يفشل في تحقيق “الهدف المعلن”
منذ بداية الحرب، وضعت القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل هدف تحرير الرهائن في صدارة أولوياتها، إلا أن الواقع على الأرض يُظهر فشل هذا المسعى. فالأرقام تشير إلى تزايد أعداد القتلى في صفوف الرهائن المحتجزين، وهو ما يدحض السردية الرسمية التي تعتبر أن “الضغط العسكري” هو السبيل الوحيد لتحقيق هذا الهدف.
في هذا السياق، يرى مراقبون أن الحرب تجاوزت منذ أشهر حدود استرجاع الأسرى، وأصبحت تسير في مسار واضح نحو إعادة تشكيل الواقع الديموغرافي والسياسي في غزة، عبر تدمير البنية التحتية، استهداف المنشآت المدنية، وفرض حصار خانق يدفع السكان إلى النزوح الجماعي.
غزة كـ”كيان يجب أن يختفي”
الخطاب المتصاعد داخل إسرائيل، خاصة من وزراء في الحكومة اليمينية، يتحدث صراحة عن “إنهاء حكم حماس”، ولكن ما يُنفذ على الأرض يتعدى ذلك. فالقصف يستهدف المدارس، المستشفيات، وشبكات المياه والكهرباء، مما يشير إلى وجود سياسة ممنهجة لـتفريغ القطاع من سكانه. في المقابل، يتم الترويج في الإعلام الإسرائيلي لفكرة “غزة ما بعد الحرب”، أي غزة خالية من المقاومة وسكانها مشتتون في سيناء أو خارج فلسطين.
ويقول محللون إن المراهنة على تدمير البنية الاجتماعية والاقتصادية للقطاع تهدف إلى كسر إرادة الصمود لدى السكان، ودفعهم إلى النزوح القسري، وهو ما يرقى إلى تطهير عرقي بطيء يمارس تحت غطاء العمليات العسكرية.
هل انتهت أهداف الحرب المعلنة؟
في ختام حديثه، شدد الجنرال تيبون على أن الطريق الوحيد المتبقي لاسترجاع الرهائن هو الحل السياسي والصفقات التبادلية، وليس القصف المكثف أو الاجتياحات البرية. وهو ما يُحرج المؤسسة العسكرية، ويزيد من الضغط الشعبي على حكومة نتنياهو، التي تتهمها عائلات الأسرى بالتقصير والتلاعب بمصير أبنائهم.
تصريحات تيبون تكشف عن حقيقة بدأت تتسرب إلى الإعلام الإسرائيلي والدولي: تحرير الأسرى لم يكن يومًا الهدف الحقيقي للحرب، بل شعارًا يُستخدم لتبرير عملية عسكرية واسعة تهدف في جوهرها إلى إلغاء وجود غزة ككيان سياسي وجغرافي وديموغرافي.
رؤية دولية: “حرب بلا أفق سياسي”
من جهته، وصف ريتشارد فولك، المقرر الأممي السابق لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، العملية الإسرائيلية بأنها “عدوان عقابي جماعي لا يتماشى مع القانون الدولي“.
وفي حديث مع إذاعة WNYC الأميركية، قال فولك:
“إسرائيل تسعى من خلال هذه الحرب إلى فرض واقع جديد في غزة، ليس فقط بإنهاء المقاومة، بل بتهجير السكان عبر صناعة كارثة إنسانية متعمدة.“
أما الباحثة في شؤون الشرق الأوسط بـ”معهد تشاتام هاوس” البريطاني، ليزا غولدبرغ، فترى أن “استمرار الحرب دون استراتيجية خروج سياسية يعكس عمق أزمة القرار في إسرائيل”:
“الحديث عن تحرير الرهائن لم يعد مقنعًا حتى داخل إسرائيل. الرأي العام بدأ يدرك أن الرهائن تحولوا إلى ورقة سياسية، وليسوا أولوية إنسانية.“
نحو نكبة جديدة؟
يرى محللون أن ما يحدث في القطاع يمهد لـ”نكبة ثانية”، عبر تهجير السكان إلى سيناء أو الخارج، وهو ما يرفضه الفلسطينيون بشدة ويخشاه المجتمع الدولي، لما له من تبعات إنسانية وسياسية.
ومع تعثر جهود الوساطة وفشل العمليات العسكرية في تحقيق نتائج ملموسة، يتزايد الحديث في الدوائر الدولية عن ضرورة وقف الحرب فورًا، والدخول في مسار سياسي جديد يضمن الإفراج عن الأسرى، ووقف نزيف الدم، وإنهاء الحصار الذي يخنق غزة منذ أكثر من 15 عامًا.
في ظل هذا الواقع، تبقى التساؤلات مفتوحة: إلى متى ستستمر الحرب؟ ومن سيدفع الثمن الأكبر؟ وهل يمكن أن تنجح سياسة “الأرض المحروقة” في تحقيق أمن لإسرائيل، أم أنها ستفتح أبواب صراع لا نهاية له في المنطقة؟