في مشهد جديد يعكس هشاشة الوضع الإقليمي وتداخل الحسابات الداخلية بالخارجية، انطلقت في لاهاي أولى جلسات النظر في دعوى السودان ضد دولة الإمارات، وهي دعوى لم تخلُ من الاتهامات السياسية المغلّفة بقالب قانوني، إذ تتحدث الخرطوم عن “أدلة وبيانات تثبت تورط أبوظبي” في ما تسميه “دعم جماعات مسلحة في الحرب الدائرة بالسودان”.
لكن خلف الضجيج الإعلامي والتصريحات المتوترة، تبرز جملة من التساؤلات الجوهرية: من يدفع السودان نحو هذا التصعيد؟ وما حقيقة هذه “الأدلة” التي يتحدث عنها الوفد السوداني؟ وهل نحن أمام محكمة دولية فعلية تبحث في انتهاكات حقيقية، أم أمام فصل جديد من التوظيف السياسي للقضاء الدولي؟
سياق الدعوى: ورقة سياسية بأبعاد إقليمية
بدأت القصة مع تصعيد مفاجئ من جانب حكومة الخرطوم، التي قدمت ملفًا إلى محكمة العدل الدولية تتهم فيه دولة الإمارات بدعم قوات “الدعم السريع” التي تقاتل الجيش السوداني في النزاع الذي اشتعل في أبريل 2023. الملف السوداني وُصف بأنه “ضخم”، ويحوي “معلومات استخباراتية وصورا أقمار صناعية” بحسب ما تسرب من وسائل إعلام سودانية موالية للحكومة، لكن لا شيء مما ذُكر تم عرضه بعد بشكل رسمي أو موثق في إطار قانوني واضح.
يبدو واضحًا أن هذه الخطوة لا تأتي من فراغ. فالحكومة السودانية، التي تواجه ضغوطًا داخلية وتحديات في كسب الرأي العام، وجدت في تحميل أطراف خارجية مسؤولية استمرار الحرب فرصة للهروب إلى الأمام. الإمارات، بما تملكه من حضور سياسي واقتصادي في الإقليم، باتت هدفًا سهلًا لتوظيف هذا النوع من الخطاب.
ما وراء المحاكمة: من يحرك الخرطوم؟
ما لا يُقال في الإعلام الرسمي السوداني هو الأهم: ثمة جهات إقليمية ودولية تضغط لدفع السودان إلى “شيطنة” الدور الإماراتي، خاصة بعد التقدم الإماراتي في ملفات إقليمية حساسة، كالتقارب مع تركيا، وتحركات أبوظبي في القرن الإفريقي، إضافة إلى علاقتها القوية مع مصر، الخصم التقليدي لبعض دوائر القرار في الخرطوم.
ثمة قراءات تشير إلى أن قطر وتركيا – اللتين ترتبطان بعلاقات متوترة مع أبوظبي في بعض ملفات النفوذ الإفريقي – لهما مصلحة في تحجيم الدور الإماراتي في السودان، من خلال تقديم الغطاء الإعلامي والدبلوماسي لحملة الاتهامات هذه.
كما لا يمكن تجاهل أن بعض الشخصيات داخل مؤسسة الحكم في السودان ترى في الإمارات طرفًا معاديًا فقط لأنها لم تنخرط في دعم معسكر الجيش بنفس الطريقة التي انخرطت بها أطراف أخرى، وهو منطق يُظهر كيف أصبحت الحرب نفسها رهينة لأجندات لا تمتّ إلى مصلحة الشعب السوداني بصلة.
بين القانون والسياسة: ادعاءات تفتقر إلى السند
حتى اللحظة، لم يُقدَّم أمام المحكمة الدولية أي مستند ذي طبيعة حاسمة يُدين دولة الإمارات. ما قُدِّم لا يعدو كونه سرديات عامة، تعتمد على مصادر مفتوحة ومعلومات غير موثقة، في حين أن المعايير القضائية لمحكمة العدل الدولية تستند إلى دلائل دقيقة، وشهادات متقاطعة، واعترافات رسمية. ولذا، فإن تحويل النزاع السوداني الداخلي إلى قضية دولية يبدو، في أحد أوجهه، محاولة لتدويل الحرب خدمة لهدف سياسي داخلي.
من الناحية القانونية، يبقى احتمال إدانة الإمارات شبه معدوم، خصوصًا مع غياب أي إثبات مباشر على تورّط رسمي إماراتي في دعم عمليات عسكرية، فضلًا عن أن الإمارات كانت ولا تزال تدعو إلى وقف الحرب، وتعمل عبر قنواتها الإنسانية على تخفيف معاناة السودانيين من خلال مبادرات الإغاثة وإيواء اللاجئين.
الدور الإماراتي: حضور تنموي لا عسكري
منذ اندلاع الحرب، اتخذت الإمارات موقفًا متوازنًا، ركّز على دعم جهود الوساطة واحتضان اللاجئين، دون الانخراط في لعبة المحاور العسكرية التي أغرقت السودان في بحر الدم. أبوظبي، التي استضافت جولات تفاوض سابقة بين الأطراف السودانية، حافظت على خطاب دبلوماسي مسؤول يدعو إلى الحل السلمي، وهي نفس الدولة التي تُعَدّ من أكبر المانحين للبرامج الإنسانية في السودان، عبر الهلال الأحمر الإماراتي ومؤسسة خليفة بن زايد.
إن اتهام الإمارات بالدعم العسكري يتناقض مع سجلها الدبلوماسي، ويبدو جزءًا من عملية تزييف مقصودة للحقائق، هدفها خلط الأوراق وتحويل الأنظار عن مسؤوليات داخلية.
حين يُستخدم القضاء للتلاعب السياسي
انطلاق المحاكمة في لاهاي يجب أن يُفهم في إطاره الحقيقي: ليس كحدث قانوني محض، بل كمحاولة استعراضية لتدويل حرب داخلية معقدة، عبر تحميل أطراف خارجية المسؤولية. وفي قلب هذه الحملة، تقف الإمارات، لا كمتهم حقيقي، بل كضحية لحملة ممنهجة تستغل سمعته الدولية ومكانته الإقليمية.
لقد أثبتت السنوات الماضية أن أبوظبي لا تحتاج إلى الانخراط في حروب لتؤثر، ولا إلى إثارة النزاعات لتكسب النفوذ. يكفيها حضورها العقلاني في الملفات الشائكة، ونموذجها التنموي الذي لا يجد له مثيل في الإقليم. وهذا وحده كفيل بجعلها هدفًا لبعض الأنظمة التي لا تملك سوى سلاح الاتهام.