لم يكن اللقاء الذي جمع مبعوثاً خاصاً من دونالد ترامب بمسؤولين مقربين من الكرملين مجرّد تواصل اعتيادي بين حملة انتخابية ورأس محور الصراع الدولي. لقد جاء ذلك اللقاء، وإن في طابع غير رسمي، ليحمل أكثر من دلالة في توقيت سياسي بالغ الحساسية: الداخل الأمريكي منقسم بشأن استمرار الدعم لكييف، وروسيا تترنح بين مكاسب ميدانية وخسائر استراتيجية، فيما أوروبا تجد نفسها أكثر عزلة مع كل يوم يقترب من انتخابات الرئاسة الأمريكية.
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، أعلن ترامب رفضه لنهج بايدن في إدارة الأزمة. لم يكن يعارض الحرب فحسب، بل اتهم الإدارة الديمقراطية بأنها دفعت موسكو دفعاً نحو الهجوم، عبر تجاهل “المخاوف الأمنية الروسية” وتوسيع الحضور الغربي على حدودها. هذه النظرة ليست جديدة في فكر ترامب، بل تتسق مع رؤيته العامة للعلاقات الدولية، حيث تتقدم البراغماتية على المبادئ، وحيث تُقاس التحالفات بميزان المال والربح، لا بالقيم والالتزامات التاريخية.
لقاء المبعوث بجهات روسية، وإن جرى بعيداً عن أضواء الإعلام الرسمي، لم يكن عرضاً لتهدئة أو جسّ نبض فحسب، بل بدا كتحضير مبكر لمرحلة تفاوض قد تبدأ فعلياً مع عودة ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض. السياق العام للمحادثات – بحسب ما تسرب من مصادر مطلعة – يدور حول وقف لإطلاق النار، وترسيم لحدود النفوذ، واعتراف واقعي بما أنجزته روسيا ميدانياً. بعبارة أخرى: صفقة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ما طبيعة هذه الصفقة، ومن سيدفع الثمن؟
إذا حكمنا بمنطق ترامب السياسي، فالأرجح أن الثمن سيدفع من حساب أوكرانيا. فالرجل الذي لا يجد حرجاً في وصف حلف الناتو بـ”العبء المالي”، والذي ألمح غير مرة إلى إعجابه بأسلوب بوتين “القوي”، لن يكون معنياً بالدفاع عن السيادة الأوكرانية إذا لم يجد في ذلك مكسباً مباشراً. بل على العكس، قد يرى في تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها مقابل إنهاء الحرب، فرصة لظهور تاريخي في المشهد الدولي، كرئيس “يصنع السلام”، ويعيد ضبط العلاقات مع موسكو.
بعض المحللين الأمريكيين يتحدثون عن “واقعية استراتيجية” تفرض نفسها. فالحرب، من وجهة نظرهم، لم تحقق الغايات المرجوة: روسيا لم تسقط، أوروبا لم تتوحد بشكل كافٍ، وأوكرانيا لم تحسم المعركة رغم كل الدعم. هذه النغمة تجد صدى متصاعداً في أوساط الجمهوريين، الذين يعتبرون أن استمرار الدعم لكييف هو هدر لمقدرات الولايات المتحدة في معركة لا تعنيها مباشرة.
لكن هذه “الواقعية” لا تراعي، كما يبدو، أن أي صفقة تتجاهل تطلعات الشعب الأوكراني، أو تضفي شرعية على الاحتلال، لن تصمد طويلاً. فالتاريخ علّمنا أن اتفاقات السلام المفروضة بالقوة لا تلد استقراراً، بل هدنة هشة تتربص بها نار كامنة. كما أن التنازل عن الأراضي مقابل السلام قد يُغري موسكو بمزيد من المغامرات لاحقاً، إذا ما وجدت أن منطق “الابتلاع مقابل التفاوض” يثمر نتائج سياسية.
المقلق في هذا المسار هو تهميش كييف عن مسار التفاوض. فأن يجلس الأمريكيون والروس في قنوات خلفية لبحث مصير الحرب دون حضور الأوكرانيين، يعني أن معادلة الحرب لم تعد تُبنى فقط على صمود الجيش الأوكراني أو دعم أوروبا، بل على إرادة واشنطن وحدها. وهذا بحد ذاته انقلاب على منطق الشراكة السياسية، التي طالما تغنت بها أمريكا في الدفاع عن حلفائها.
من هنا، فإن السؤال الأهم ليس فقط: هل سيتوصل ترامب وبوتين إلى صفقة؟ بل: هل ستتم هذه الصفقة من فوق رؤوس الأوكرانيين، وعلى حساب مستقبل دولتهم؟
ما يبدو واضحاً أن ترامب، إذا عاد إلى الحكم، سيغيّر المعادلة برمتها. لا من باب الخضوع لموسكو، ولكن من منطلق رؤيته بأن مصلحة أمريكا هي في التخفف من أعباء الخارج، لا الاصطفاف في نزاعات لا تنتهي. وإذا ما حصل ذلك، فإننا قد نشهد نسخة جديدة من مؤتمر يالطا، ولكن بصفقات مغلقة، وتحت طاولة بلا مقاعد للأطراف الصغيرة.
وربما آن لأوكرانيا، ومعها أوروبا، أن تفكر في “يوم ما بعد أمريكا”، حتى لو لم يأتِ بعد.