يحلم عديد من صناع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة بأن يكونوا “هنري كيسنجر” التالي. سواء اعترفوا بذلك أم لا، فإنهم يرونه نموذجاً يُحتذى به في القدرة على إجراء حسابات دقيقة للمصالح الوطنية، والتمتع ببصيرة جيوسياسية حادة، والالتزام العميق بالعمل الدبلوماسي. فقد كان رجل دولة أبرم صفقات كبرى تركت بصمات عميقة على الساحة الدولية. ولا توجد مناورة دبلوماسية تُجسد أسلوب كيسنجر أكثر من الانفتاح الأميركي على الصين عام 1972.
ومع احتدام المنافسة بين القوى العظمى من جديد، قد يُغري صناع القرار الأميركيين اليوم محاولة تكرار ذلك النجاح عبر تنفيذ ما يمكن تسميته “عملية كيسنجر العكسية”، أي السعي إلى التقارب مع روسيا لموازنة صعود الصين، على عكس ما فعله هنري كيسنجر ابتداء من عام 1971 عندما كان يشغل منصب مستشار الأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون. ففي ورقة بحثية مؤثرة نُشرت عام 2021 من قِبل المجلس الأطلسي، كتبها مسؤول حكومي سابق مجهول الهوية، اقترح الكاتب أن “تُعيد واشنطن تحقيق التوازن في علاقتها مع روسيا،” لأن “من مصلحة الولايات المتحدة الاستراتيجية الدائمة أن تحول دون ازدياد عمق التحالف بين موسكو وبكين”.
وفي الأشهر القليلة الأولى، بدا أن إدارة ترمب قد تقبلت هذه الفكرة. فقد دعا وزير الخارجية ماركو روبيو الولايات المتحدة إلى “إقامة علاقة” مع روسيا بدلاً من تركها “تعتمد كلياً” على الصين. كما أن استخدام “نهج كيسنجر المعاكس” هو الذريعة المثالية لتودد الرئيس دونالد ترمب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يكره الأميركيون بوتين، ولكن إذا أمكن تبرير احتضان ترمب للديكتاتور الروسي على أنه سلوك براغماتي أو واقعي سياسي أو على غرار نهج كيسنجر، فقد يقبلون هذا النهج.
من الناحية النظرية، يبدو إبعاد روسيا عن الصين لتغيير ميزان القوى لمصلحة الولايات المتحدة أمراً جذاباً. لكن في الواقع، هذه الفكرة سيئة. الأهم من ذلك هو أن المقارنة مع الحرب الباردة في سبعينيات القرن الماضي مغلوطة. ففي تلك الحقبة، استغلت واشنطن الانقسام العميق القائم بالفعل بين موسكو وبكين لتحسين علاقاتها مع الصين، ولم تكن هي من أوجد هذا الانقسام.
أما اليوم، فلا يوجد مثل هذا الانقسام، بل على العكس، أصبحت بكين وموسكو شريكتين استراتيجيتين حقيقيتين. فكل من بوتين وزعيم الصين شي جينبينغ يرى في الولايات المتحدة التهديد الأكبر لبلاده، وقد أسسا علاقة مؤسسية قائمة على مصالح مادية متقاربة وقيم استبدادية مشتركة. ولا يملك بوتين أي سبب للتخلي عن الدعم الصيني الواسع والموثوق الذي تتلقاه روسيا في اقتصادها المدني وصناعتها الدفاعية، مقابل علاقة مع واشنطن قد لا تستمر لما بعد نهاية ولاية ترمب عام 2028.
علاوة على ذلك، وفي حال حدوث الأمر غير المرجح والمتمثل في أن تنجح الولايات المتحدة في إبعاد روسيا عن الصين، فإن هذا التقارب الجديد مع الكرملين لن يعود بمنافع حقيقية تُذكر على الشعب الأميركي، بل سيتسبب في خسائر كبيرة لمصالح أميركية أخرى. فلن يساعد بوتين الولايات المتحدة في ردع الصين أو احتوائها، بل سيستغل حماسة واشنطن لتحسين العلاقات كي يلاعبها هي وبكين ضد بعضهما البعض بينما يعيد بناء اقتصاد روسيا وجيشها. حتى مجرد السعي للتقارب مع موسكو سيكون ضاراً، لأن أي تودد تُبديه الولايات المتحدة لروسيا سينفر أوروبا منها.
عسكرياً، لا تملك روسيا ما يمكن أن تقدمه للولايات المتحدة أكثر مما يقدمه حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهي كذلك شريك تجاري واستثماري أقل شأناً من الاتحاد الأوروبي. إن محاولة كسب روسيا ستعني التخلي عن مجموعة من الحلفاء الأقوياء والأغنياء والموثوقين لمصلحة شريك ضعيف وفقير ومتقلب. وهذا تبادل لم يكن كيسنجر، وهو واقعي بامتياز، ليقبله أبداً.
التاريخ لا يتناغم دوماً
نشأت فكرة التقارب مع الصين مع نيكسون، وليس مع كيسنجر. وقد كتب نيكسون في مجلة “فورين أفيرز” عام 1967، قبل أن يصبح رئيساً، أن “أي سياسة أميركية تجاه آسيا يجب أن تواجه على وجه السرعة واقع الصين”، وأن واشنطن “لا تستطيع ببساطة أن تترك الصين إلى الأبد خارج الأسرة الدولية، حيث تُغذي أوهامها، وتعتز بكراهيتها، وتُهدد جيرانها”.
كان بإمكان نيكسون أن يطرح فكرة التصالح لأن ماو تسي تونغ، زعيم الصين، كان معنياً بالوصول إلى الهدف ذاته. على الرغم من أن واشنطن ظلت تشك في أن كلاً من بكين وموسكو كانتا تُنسقان مع بعضهما سراً، إلا أن التحالف الصيني السوفياتي كان قد انتهى في الواقع منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين في أعقاب نشوب خلافات حادة بين ماو والزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف.
بحلول أواخر الستينيات، كانت الصين والاتحاد السوفياتي في حال حرب عملياً، فقد اشتدت ضراوة القتال على حدودهما الشمالية الشرقية حول جزيرة تشنباو، الواقعة على النهر الذي يفصل بين الدولتين، إلى درجة أن ماو قرر إجلاء القادة السياسيين من بكين في أغسطس (آب) 1969 [خطوة احترازية لحمايتهم من أي تهديدات قد تنشأ نتيجة لتصاعد التوترات العسكرية].
وفي الوقت نفسه، كانت الصين تعاني داخلياً من تجاوزات الثورة الثقافية [الثورة الثقافية (1966-1976) كانت حركة سياسية تهدف إلى تعزيز أفكار ماو والحد من التأثيرات الفكرية والثقافية التي كان يراها ماو ضد النظام الشيوعي، لكنها تسببت في فوضى اجتماعية واقتصادية]. وهكذا، عندما وصل كيسنجر للمرة الأولى إلى بكين في عام 1971، كانت الصين فقيرة ومعزولة وغير فعالة وتقاتل السوفياتي. لم يكن كيسنجر بحاجة إلى إقناع نظرائه الصينيين بالنأي بأنفسهم عن موسكو. فقد انفصل الشركاء السابقون عن بعضهم بعضاً سلفاً.
إن العلاقات بين روسيا والصين اليوم لا يمكن أن تكون أكثر اختلافاً [عنها في الستينيات والسبعينيات]. فليس هناك انقسام يمكن استغلاله. ومن المؤكد أن بكين كانت حذرة في استجابتها لغزو بوتين الشامل لأوكرانيا في عام 2022، إذ امتنعت عن التصويت بدلاً من تدلي بصوتها ضد قرارات الأمم المتحدة التي تدين الحرب، ولم تعترف على الإطلاق بضم موسكو للأراضي الأوكرانية، كما أنها رفضت حتى الآن إرسال أنظمة أسلحة كاملة إلى روسيا، وقد تحايلت بحذر على العقوبات الغربية. لقد خيبت هذه المواقف آمال الكرملين، بيد أنها لم تُحدث شرخاً كبيراً بين الدولتين. وفي نهاية المطاف، إن ما يوحد الزعيمين بوتين وشي جينبينغ هو أكثر بكثير مما يفرقهما.
التقارب مع الكرملين لن يجلب فوائد حقيقية للشعب الأميركي
لدى الزعيمين الروسي والصيني رؤية مشتركة للسياسة العالمية، تقوم على التزامهما المتبادل بالاستبداد وعدائهما المشترك تجاه الولايات المتحدة. فكلاهما يشعر بالتهديد من الدول الديمقراطية والأفكار الديمقراطية. وقد دأب بوتين وشي على انتقاد الولايات المتحدة لدعمها ما يُعرف بـ”الثورات الملونة” في جوارهما، ولسعيها إلى احتواء النفوذ الروسي والصيني في أوروبا وآسيا على التوالي. ويعتقدان أن الولايات المتحدة تمثل التهديد الأكبر لاستقرار بلديهما الداخلي وأمنهما الخارجي.
ومن وجهة نظرهما، تمتلك واشنطن قوة مفرطة في العالم، وأفرطت في الترويج للديمقراطية وحقوق الإنسان. وهما يسعيان إلى تقليص النفوذ الاقتصادي والعسكري والسياسي للولايات المتحدة، وإضعاف النظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، ويريان في بعضهما شريكاً أساسياً في هذا الجهد. قد لا يكون ترمب نفسه ملتزماً بالترويج للديمقراطية أو الحفاظ على النظام الدولي الليبرالي، لكن بوتين وشي يتوقعان أن رئيساً واحداً لن يمحو عقوداً من الاستراتيجية الأميركية والتقاليد الراسخة في السياسة الخارجية الأميركية.
لا يطمح بوتين وشي فقط إلى جعل العالم آمناً للأنظمة الاستبدادية، بل يسعيان أيضاً إلى تشكيل القواعد والأعراف والمؤسسات الدولية بحيث تصبح الأنظمة الاستبدادية والتنمية التي تقودها الدولة مشروعة بقدر شرعية الديمقراطية والرأسمالية، إن لم يكن أكثر. ومن أجل تعزيز رؤيتهما هذه، يعمل الزعيمان من خلال منظمات متعددة الأطراف تستبعد الولايات المتحدة، مثل تكتل “بريكس” الذي يضم 10 دول، ومنظمة شنغهاي للتعاون، والتي تعد روسيا والصين من الأعضاء المؤسسين.
وتُسهم العلاقة الشخصية الوثيقة بين بوتين وشي في تسهيل وتعزيز التعاون بين بلديهما. إذ يرى بوتين في شي أهم شريك له في العالم، بينما يكن شي، الذي كان والده يدير التحالف الصيني السوفياتي في عهد ماو، ميلاً خاصاً لروسيا. وقد التقى الزعيمان عشرات المرات. وهما يحبان بعضهما البعض، أو إذا لم يكونا كذلك، فهما بارعان جداً في التظاهر بذلك. ففي ظل زعماء آخرين، كان تاريخ الخيانة وانعدام الثقة بين روسيا والصين، الذي طبعته حروب السيطرة الروسية على أراض صينية، وتصادم مناطق النفوذ، والاختلافات الثقافية، والنزاعات الحدودية، قادراً على عرقلة العلاقات الثنائية، لكن الروابط الشخصية بين بوتين وشي تُحيد هذه المصادر المحتملة للتوتر. وطالما ظل الزعيمان في السلطة، فلن يحدث انقسام بين بلديهما.
وقد مكن كل ذلك أيضاً من التوسع السريع في المصالح الاقتصادية والعسكرية بين روسيا والصين. فعلى مدى العقود القليلة الماضية، زاد التعاون بين البلدين في مبيعات الطاقة، وصفقات الاستثمار، ونقل الأسلحة، ومشاريع الصناعات الدفاعية، والتدريبات العسكرية المشتركة. وقد تعمق اعتماد روسيا على الصين بشكل كبير منذ الغزو الشامل لأوكرانيا عام 2022. وفي عام 2023، بلغ حجم التجارة الثنائية أكثر من 240 مليار دولار، وهو أعلى مستوى على الإطلاق. وبعدما فقدت روسيا أسواقها الأوروبية للنفط والصادرات، أصبحت تعتمد على عائدات مبيعات الطاقة إلى الصين لتمويل حربها.
كما تتلقى شركات الدفاع الروسية مكونات حيوية من الصين لبناء أسلحة جديدة. وسرعان ما زادت الصين صادراتها من السلع الاستهلاكية إلى روسيا، لملء الفراغ الذي خلفته السلع الغربية. ووفقاً لشركة الأبحاث “روديوم غروب”، ففي قطاع السيارات وحده، ارتفعت الحصة السوقية للصين في روسيا من تسعة في المئة إلى 61 في المئة بين عامي 2021 و2023.
مسعى لا طائل منه
من خلال التهديد بضم أراض جديدة وفرض تعريفات جمركية، زاد ترمب من تعقيد مشهد المنافسة بين القوى الكبرى بسرعة مذهلة، من خلال استعداء أقرب حلفاء الولايات المتحدة، لا سيما في أوروبا وأميركا الشمالية. كما حاول ترمب استمالة بوتين عبر إسقاط عضوية أوكرانيا في الـ”ناتو” من الحسابات؛ والتصويت مع روسيا وكوريا الشمالية ودول مارقة أخرى على قرارات للأمم المتحدة تتعلق بالحرب في أوكرانيا؛ والإصرار على أن تتنازل أوكرانيا عن أراضٍ لروسيا لإنهاء الحرب؛ والتلميح إلى رفع العقوبات عن الشركات الروسية حتى قبل التوصل إلى اتفاق سلام. إن تنفير الحلفاء بلا داعٍ يضعف قوة الولايات المتحدة ونفوذها في العالم، ويتعارض مباشرة مع مبادئ الواقعية السياسية على طريقة كيسنجر. كما أن حماسة ترمب لتقديم تنازلات واسعة لبوتين توحي بأنه يعد العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا أكثر أهمية من علاقاتها مع أوكرانيا أو بقية أوروبا.
وليس من المفاجئ أن بوتين يستغل فعلاً رغبة ترمب في إقامة الصداقة. ففي مارس (آذار)، وبعد أن قدم ترمب تنازلات متعددة لروسيا كحافز لبوتين على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، أراد الأخير المزيد، بما في ذلك مطالبة واشنطن بوقف نقل الأسلحة إلى أوكرانيا والكف عن تبادل المعلومات الاستخباراتية معها، وإزاحة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من منصبه وفي الاجتماعات الخاصة مع مسؤولي إدارة ترمب، قد يلمح بوتين وفريقه إلى استخدام التعاون مع الولايات المتحدة لتحقيق التوازن مع الصين. لكن ذلك كله سيكون مجرد لعبة. إذ يرى بوتين في شي شريكاً مستقراً أيديولوجياً وعسكرياً واقتصادياً وهو لن يتخلى عن تلك العلاقة مقابل وعود غامضة بتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة.
إن تصور بوتين للولايات المتحدة على أنها عدوه الأكبر يتبلور منذ عقود، ومن المستبعد أن يتغير الآن. ولا يزال مساعدوه وداعموه يتبنون النظرة الأساسية ذاتها. ورغم أن الزعيم الروسي قد يعتقد أن ترمب يريد إقامة علاقات أمتن معه، فإنه لن يفكر بالطريقة نفسها تجاه مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية. فهو يدرك أن الرئيس الأميركي يتمتع بنفوذ كبير، غير أنه لا يسيطر سيطرة كاملة على صنع السياسة الخارجية الأميركية. وقد رأى كيف فشل ترمب في ولايته الأولى في تقديم فوائد ملموسة لموسكو، مثل رفع العقوبات عن روسيا أو وقف المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا. وبعد أن شن بوتين غزوه الشامل لأوكرانيا، أصبح الرأي العام الأميركي أكثر انعداماً للثقة تجاه الديكتاتور الروسي. وإذا حاول ترمب انتزاع بوتين من قبضة شي، فإن مقاومة داخلية قوية في الولايات المتحدة ستقيد خياراته.
ما يجمع بوتين وشي يفوق بكثير ما يفرق بينهما
علاوة على ذلك، يعلم بوتين أن ترمب سيبقى رئيساً لأربعة أعوام فقط، وقد يسيطر على الكونغرس لمدة عامين فحسب، بينما قد يحكم شي جينبينغ الصين لعقد أو أكثر. ومع وجود دعم أميركي ضعيف خارج إطار ترمب لانتقال استراتيجي موالٍ لروسيا، يتوقع بوتين أن أي تقارب سينتهي بسرعة. وحتى ترمب نفسه لا يمكن الوثوق به. فهو بالتأكيد أكثر تقلباً من شي. فعلى سبيل المثال، لم تتجاوز المودة المعلنة من ترمب تجاه زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون في ولايته الأولى تبادل رسائل مليئة بالمشاعر الرقيقة وقمتين فاشلتين، ولم يثمر ذلك عن أي تحول مهم في العلاقات الأميركية الكورية الشمالية.
يعلم بوتين أن ترمب لا يستطيع أن يقدم له ما يقدمه له شي. ولا تستطيع واشنطن أن تسد الفجوات التي ستنشأ في روسيا إذا ما تخلت عن شراكتها الاستراتيجية مع الصين. فعلى سبيل المثال، لن تحل الولايات المتحدة محل العقود الصينية الخاصة بالطاقة الروسية، لأن البلاد مكتفية ذاتياً بالفعل. كما سيتردد صانعو السياسة الأميركيون وشركات الدفاع بشدة في إعادة بناء القدرات العسكرية والصناعية الدفاعية الروسية. وبالنظر إلى الخسائر التي تكبدها المستثمرون سابقاً في روسيا، وسوء سيادة القانون فيها اليوم، والخشية من فرض عقوبات جديدة إذا ما غزا بوتين أوكرانيا أو أي بلد آخر مرة أخرى، فإن البنوك والشركات الأميركية الخاصة ستتردد في العودة إلى الاستثمار الاقتصاد الروسي.
إذا بدا أن ترمب يُحرز بعض التقدم مع بوتين، فإن لدى شي ما يمكن أن يستخدمه لإبقاء روسيا ضمن معسكره. إذ يمكن للصين أن توسع بسرعة تعاونها مع روسيا في مجال الوقود الأحفوري، كأن تُنجز مشروع خط أنابيب “قوة سيبيريا 2” للغاز الطبيعي، الذي تأجل لأعوام. كما يمكن لبكين أن تزيد من مساعدتها لقاعدة الصناعة الدفاعية الروسية. وهناك كثير من السبل التي يمكن أن تعتمدها بكين لتعزيز تعاونها الدبلوماسي مع موسكو في الأمم المتحدة وفي المناطق الرئيسة ذات الاهتمام المشترك، مثل الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية.
تحول مُكلف
عندما حقق كيسنجر ونيكسون التقارب بين الصين والولايات المتحدة في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وفر ذلك لواشنطن ورقة ضغط في مفاوضاتها مع السوفيات بشأن الحد من التسلح، والانفراج الأوسع، وغيرهما. ولاحقاً، وبعد تطبيع العلاقات الأميركية الصينية (وغزو موسكو لأفغانستان عام 1979)، أقامت الولايات المتحدة والصين منشأة مشتركة لمراقبة التجارب النووية والصاروخية السوفياتية، وبدآ التعاون في المجال الدفاعي. ومع انفتاح الاقتصاد الصيني على العالم في الثمانينيات، استفادت الشركات والمستهلكون الأميركيون من نمو القطاع الصناعي الصيني. أما اليوم، فلا توجد فوائد موازية لشراكة أميركية مع روسيا.
ليس لدى بوتين وروسيا كثير ليقدماه من أجل خدمة المصالح الأمنية الأميركية، وما يملكانه لن يستخدماه. فالغرض من جذب موسكو إلى هذا الجانب سيكون إضعاف موقع بكين، بما في ذلك قدرتها على بسط نفوذها العسكري في جوارها الإقليمي. لكن القوات المسلحة الروسية، التي بالكاد صمدت في أوكرانيا، لا يُتوقع منها أن تقدم الكثير في سبيل احتواء الصين. وحتى لو أعادت روسيا بناء قواتها العسكرية، فإن بوتين لن ينشرها أبداً ضد الصين، ولن يضع جنوداً روساً إضافيين أو صواريخ أو سفناً لردع العدوان الصيني في آسيا.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، يعرف بوتين أن إعادة الاصطفاف الكامل مع الولايات المتحدة أمر غير مطروح على الطاولة. فشركاء واشنطن الغربيون لن يوافقوا أبداً على دعوة روسيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي الـ(ناتو) أو حتى العودة إلى مجموعة السبع. ولهذا السبب، لن تتخلى موسكو عن موقعها الحالي بالانسحاب من “بريكس” أو “منظمة شنغهاي للتعاون” أو أي أندية أخرى تتمحور حول بكين. وقد يعتقد صانعو السياسات الذين يحلمون بشراكة أميركية روسية جديدة أن بوتين يمكن أن يساعد في عزل الصين في مجلس الأمن الدولي. غير أن هذا وحده لا يساوي الكثير بالنسبة للولايات المتحدة، طالما أن بكين لا تزال تملك حق النقض (الفيتو) في ذلك المجلس.
يستغل بوتين بالفعل رغبة ترمب في إقامة علاقة صداقة
كما أن موسكو لا تستطيع أن تقدم لواشنطن عرضاً اقتصادياً مغرياً أيضاً. فالولايات المتحدة مُصدر صاف للوقود الأحفوري، ولا تحتاج إلى واردات إضافية من الطاقة من روسيا. وقد يعرض بوتين على الشركات الأميركية كل أنواع الفرص الاستثمارية الجديدة، لكن هذه الشركات سبق وأن تضررت حين حاولت ممارسة الأعمال في روسيا. فقد وقعت شركة “إكسون موبيل” النفطية، على سبيل المثال، مشروعاً مشتركاً بمليارات الدولارات مع شركة “روسنفت” الروسية المملوكة للدولة، لكنه انتهى بعدما غزا بوتين أوكرانيا عام 2022. وهناك كثير من الأمثلة التحذيرية عن رجال أعمال أميركيين واجهوا صعوبات في حماية حقوق ملكيتهم، بل وحريتهم الشخصية أحياناً، وسط حالة الفوضى القانونية التي يتسم بها النظام الروسي. ومن ثم، فمن غير المرجح أن يحقق أي انفراج دبلوماسي فوائد مادية كبيرة في المستقبل القريب.
وكما أظهرت المفاوضات الجارية بشأن وقف إطلاق النار في أوكرانيا، لا يبدي بوتين أي اهتمام بتقديم تنازلات مجانية، أو حتى بعد حصوله على تنازلات كبيرة. ومن المؤكد أنه سيطالب واشنطن بالكثير إذا قرر الابتعاد عن بكين. ومن بين هذه المطالب، تسليم روسيا السيطرة الكاملة على أوكرانيا. وقد يكون سحب الجنود الأميركيين من أوروبا، وإضعاف، وربما حتى التخلي عن، حلف الـ”ناتو” مطلباً آخر. وبعد أن وقع معاهدة دفاع جديدة مع كوريا الشمالية عام 2024، قد يطالب بوتين حتى بإجراء تغييرات على انتشار القوات الأميركية في كوريا الجنوبية، وهو أمر سبق أن بحثه ترمب خلال ولايته الأولى.
وسيكون السعي إلى إقامة علاقات أوثق مع روسيا مكلفاً جداً لعلاقات الولايات المتحدة مع شركائها الأكثر موثوقية وقدرة. فاحتضان موسكو بالكامل سيُحدث صدمة قوية لحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا، وسيقوض مصداقية هذه التحالفات في وقت يساور فيه كثيراً من الدول القلق بالفعل بشأن التزامات الولايات المتحدة. وقد يتوقف الحلفاء عن شراء الأسلحة الأميركية، ويتوقفون عن تبادل المعلومات الاستخبارية، ويقلصون تجارتهم واستثماراتهم مع الولايات المتحدة. بل قد تنشئ الدول الأوروبية تحالفاً جديداً يستبعد واشنطن. وقد تقرر بعض الدول غير النووية، وبخاصة في آسيا، بناء ترسانتها النووية الخاصة إذا رأت في التقارب الأميركي الروسي مؤشراً إلى أن الولايات المتحدة لم تعد تضع أمن الدول الواقعة تحت مظلتها النووية ضمن أولوياتها.
وفي نهاية المطاف، فإن محاولة إبعاد روسيا عن الصين خطوة غير حكيمة وخطأ في آن معاً. فهي غير حكيمة بالدرجة الأولى لأنها ستمنح بوتين قدراً مفرطاً من القوة. إذ ستصبح موسكو اللاعب المحوري في المنافسة بين بكين وواشنطن، وستمتلك علاقات مع الطرفين وهامشاً للمناورة بما يخدم مصالحها. وستكون الولايات المتحدة بذلك قد ساعدت بوتين على حل واحدة من أبرز مشكلاته الجيوسياسية: اعتماده المفرط على الصين وضعف أوراقه التفاوضية أمامها.
كما أن مصالحة موسكو خطأ أخلاقي أيضاً، إذ تعني إضفاء الشرعية على أفعال بوتين الشنيعة والعنيفة، سواء في أوكرانيا أو داخل بلاده، حيث شدد قبضته الاستبدادية باعتقال المتظاهرين والنشطاء وزعماء المعارضة، بمن فيهم أليكسي نافالني، أبرز معارض سياسي لبوتين، الذي أثار موته في أحد معسكرات الاعتقال الروسية العام الماضي شبهات بتورط الكرملين. وليس احتضان قائد من هذا النوع أمراً يستحق المكاسب المحدودة التي قد تتحقق من استخدامه لموازنة الصين. وكلما أدرك صانعو القرار في الولايات المتحدة أن هذه الاستراتيجية لن تنجح، كان ذلك أفضل لمصالح الولايات المتحدة ولنزاهة القيم الأميركية.