كان دونالد ترامب وسيبقى الرجل الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته ومواقفه. إنه محترف المفاجآت على جميع المستويات. قبل الإعلان عن زيادته الرسوم الجمركية العالية على كل الواردات إلى الولايات المتحدة الأمريكية من جميع الدول المصدرة في العالم، كان باشر علناً بتعزيز «إسرائيل» عسكرياً بدفعةٍ سخية من منظومة الصواريخ المتطورة طراز «ثاد»، وبحشد قوةٍ بحرية وجوية ضخمة في الشرق الأوسط والمحيط الهندي، تتضمن عدداً وفيراً من المدمرات وحاملات الطائرات والقاذفات الحربية الفتاكة من طراز B-52، موحياً إلى العالم بأنه سيطوّر هجمةَ أمريكا على اليمن، جيشاً وشعباً، إلى حربٍ كاسرة، بالاشتراك مع «إسرائيل» ضد إيران.
وكانت إيران بقيادتها العليا قد رفضت استجابة طلب ترامب المترع بالتهديد لإجراء مفاوضات مباشرة حول برنامجها النووي، فما كان من ترامب إلاّ أن فاجأ العالم، خصوصاً صديقه ضيف البيت الأبيض بنيامين نتنياهو، بالإعلان عن مباشرة مفاوضات مع إيران تبدأ في سلطنة عُمان في 12 نيسان/أبريل الجاري.
المسار الدبلوماسي
نتنياهو، الداعي بلا كلل إلى شن الحرب على إيران، ذُهل بما سمعه للتوّ، وحاول تخفيف وطأة المفاجأة الصاعقة بكلماتٍ خافتة وصفها الإعلام الإسرائيلي بأنها عكست خيبته وشعوره بالإذلال: «إن موقفنا (مع الولايات المتحدة ) موحّدٌ إزاء عدم حصول إيران مطلقاً على سلاح نووي، وأن ذلك يمكن أن يتحقق من خلال المسار الدبلوماسي». لكن ثمة في «إسرائيل» من بقي يمنّي النفس بأن يتخذ ترامب لاحقاً من حربه المدمرة على اليمن نموذجاً لما يمكن أن يفعله بإيران على نحوٍ أقوى وأوسع إذا ما رفضت الانصياع إلى طلباته الكثيرة المتشددة. كيف؟ بالانتقال من استراتيجية الاستجابة الدفاعية التي انتهجتها معها إدارة الرئيس السابق جو بايدن إلى استراتيجية الردع الهجومي.
أليس هذا مدلول ما هدد به ترامب ومعاونوه إيران عشيـةَ بدء المفــاوضات في عُمان؟ إلى ذلك، ثمة سؤالٌ آخر: ماذا تريد واشنطن وطهران في المفاوضات؟ ترامب يريد الوصول إلى منع إيران من امتلاك السلاح النووي. طهران تريد أن تقتصر المفاوضات على البحث في الملف النووي فقط، لكن يتضح من تصريحات الرئيس الأمريكي ومعاونيه أن واشنطن تبتغي توسيع نطاق المفاوضات لتشمل، بالإضافة إلى الملف النووي، سياسة إيران في المنطقة، لاسيما مسألة دعمها للحوثيين في اليمن، وبرنامجها لبناء وتطوير الصواريخ البالستية بعيدة المدى. لئن تتقصد تل أبيب تجاهل خطورة الصواريخ البالستية التي قاست منها خلال ردّ إيران على اعتدائها الأخير، إلاّ أن خبراءها الاستراتيجيين يدركون أن عقدة المفاوضات تتركز في برنامج إيران لبناء وتطوير الصواريخ البالستية من حيث هي أخطر على «اسرائيل» (وربما على الولايات المتحدة أيضاً ) من برنامجها النووي. ذلك أن نجاح طهران (المفترض) في صنع قنبلةٍ نووية لن يدفعها إلى استخدامها في الحرب لثلاثة أسباب وازنة:
الأول، لأن المرشد الأعلى الأمام علي الخامنئي أفتى بعدم جواز صنعها أو استخدامها لكون الفتك الشديد والتدمير العشوائي الناجمين عنها محظورين أخلاقياً وشرعياً. فالعرب، مسلمين ومسيحيين، الذين يسكنون كيان الاحتلال الصهيوني القائم منذ 1948 كما سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة سيصابون بالتأكيد في حال استخدام السلاح النووي بأضرار فادحة جداً على الصعيدين البشري والعمراني.
الثاني، لأن استخدام السلاح النووي يُلحق أذى وأضراراً فادحة بالطرفين المتحاربين اللذين يستخدمانه ما يحدّ كثيراً من مشروعيته وجدواه.
الثالث، لأن الولايات المتحدة أقوى نووياً من إيران بأشواط الأمر، الذي يُلحق بإيران أضراراً بما لا يقاس مقارنةً بالولايات المتحدة، فماذا من حاجة وجدوى تبقيان لاستخدام هذا السلاح الفتاك؟
ردود الفعل السلبية
تبدو الصواريخ البالستية بعيدة المدى بالمقارنة مع الأسلحة النووية، أفضل مردوداً وأكثر تأثيراً وتدميراً، بل أخطر على «إسرائيل» من الأسلحة النووية، لماذا؟ لأن كيان الاحتلال لن يستخدم الأسلحة النووية للأسباب المذكورة آنفاً، كما لا يُعقل أن تقوم الولايات المتحدة باستخدامها نيابةً عنه لعلمها، أن بمقدور إيران استخدام صواريخها البالستية للرد بقوة، ما يؤدي إلى إلحاق أضرارٍ فادحة بشرية ومادية بجميع قواعد أمريكا العسكرية في منطقة غرب آسيا، ناهيك من الأضرار الفادحة التي ستلحق بالكيان الصهيوني ذاته.
رغم الانطباعات الإيجابية التي عبّر عنها كِلا الجانبين الإيراني والأمريكي بعد اجتماعهما الأول يوم السبت الماضي لتحديد مسار المفاوضات، تميل غالبية المراقبين في كلّ من طهران وتل أبيب وواشنطن إلى استبعاد نجاح المفاوضات الجارية في عُمان، وإلى الاعتقاد بأنها ستطول لعدّة اعتبارات ليس أقلها تعاظم ردود الفعل السلبية على حرب الرسوم الجمركية التي شنّها ترامب على معظم الدول المصدّرة واضطراره إلى الانشغال باحتوائها تطويقاً لانعكاساتها السلبية على الولايات المتحدة، كما على سائر دول العالم.
تجميد البرنامج النووي
غير أن فريقاً آخر من المراقبين لا يستبعد أن تتوصّل واشنطن وطهران إلى تسويةٍ وسطية قوامها تجميد البرنامج النووي الإيراني في جانبه المتعلق بتخصيب اليورانيوم بنسبةٍ مئوية عالية ولازمة لصنع قنابل نووية، الأمر الذي يرضي إيران لكون التسوية هذه تُبقي لها برنامجها النووي في جانبه السلمي بلا قيود، وهو ما يهمها بالدرجة الأولى، كما لا تمسّ حقها في تطوير برنامج صواريخها البالستية بعيدة المدى، كما من شأنها أن ترفع عنها العقوبات الاقتصادية الأمريكية الجائرة.
إلى ذلك، من شأن هذه التسوية أيضا إرضاء الولايات المتحدة التي يهمها عدم امتلاك إيران بالمطلق أسلحة نووية، وذلك بقبولها اعتماد آليات صارمة للمراقبة والضبط، كما يتيح لها اجتذاب إيران للاستثمار في ميادين الاقتصاد الامريكي. أما «إسرائيل» التي يهمها اساساً تفكيك البنية النووية الإيرانية كلها، فتخرج بهذه التسوية من الصراع خالية الوفاض. يبقى سؤالٌ برسم المستقبل: ماذا إذا فشلت المفاوضات الأمريكية – الإيرانية في عُمان، وكيف ستكون انعكاساتها على الصراع العربي – الإسرائيلي؟