يبدو الاتحاد الأوروبي اليوم، بشكل مفاجئ، كيانًا مألوفًا، مطمئنًا، ووقائيًا. إنها واحدة من أبرز المفارقات، وربما الحداثة الوحيدة في هذا العصر المضطرب الذي لا يترك مجالًا كبيرًا للأمل. في عالم تهيمن عليه “المفترسون”، على حد تعبير جوليانو دا إمبولي في كتابه الأخير الصادر في فرنسا، أصبحت أوروبا تمثل الملاذ الأخير تقريبًا لسيادة القانون، واحترام المعايير الدولية، وأبسط قواعد اللياقة السياسية.
ورغم كل أخطائه، يظل الاتحاد الأوروبي اليوم غنيًا بصفات بدأت بالتلاشي في أماكن أخرى من العالم. لكن السؤال الجوهري هو: كيف يمكن الحفاظ على هذه القيم؟ والأهم، كيف نحول الاتحاد إلى نموذج عالمي يُحتذى به، في وقت يتجه فيه العالم بسرعة نحو منطق القوة والوحشية؟
لقد كشفت رئاسة دونالد ترامب، بما حملته من مشهدية صادمة وكئيبة، عن مكامن قوة الاتحاد التي اعتدنا انتقادها. فالسجال العنيف الذي خاضه ترامب ضد أوروبا أضاء لنا بشكل غير مباشر مزاياها، بل وأجبرنا على الاعتراف بقيمتها الاستراتيجية، الأمر الذي خلق حالة من الوعي الصحي داخل القارة.
لكن بالطبع، لا يمكن إنكار القيود البنيوية التي يعاني منها الاتحاد. فالتوافق داخل أوروبا لا يزال صعبًا، لا سيما في ظل مواقف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي لا يخفي تعاطفه مع الأنظمة السلطوية. والأخطر من ذلك، أن هناك أحزابًا سياسية أوروبية، مدعومة من شخصيات مثل ترامب وجي دي فانس وإيلون ماسك، تقف الآن على أبواب السلطة، محاوِلةً التستر على تناقضاتها الواضحة بين الخطاب الوطني والدعم غير المعلن لمحاور الاستبداد في موسكو وواشنطن.
لقد تابعت الشؤون الأوروبية منذ الحقبة الذهبية لجاك ديلور، لكن نادرًا ما شعرت بهذا القدر من الإلحاح، وكأن الاتحاد الأوروبي يعيش لحظة وجودية لا تسمح بمزيد من الأخطاء.
التأخر الأوروبي في ملفات حيوية، مثل التكنولوجيا، والدفاع المشترك، والحماية من العدوان التجاري أو المالي، بات يضعف القارة بشكل واضح، في وقت تتصاعد فيه التهديدات بشكل غير مسبوق.
ورغم أن هذه الفجوات لا يمكن تجاوزها بقرار واحد، إلا أن الخطوات الأولى نحو التدارك تبدو مشجعة. كما أن عودة المملكة المتحدة إلى تقارب أكبر مع شركائها الأوروبيين، بعد خيبة الأمل التي سببتها واشنطن، تعتبر بادرة إيجابية لا يُستهان بها.
لكن التحديات لم تنتهِ بعد. فبقاء الاتحاد الأوروبي نفسه بات على المحك، في ظل إدارة أميركية قد تسعى إلى تفكيك السياسات المشتركة—خصوصًا في مجالات مثل الرقمنة والتجارة—بغية تحويل كل دولة أوروبية إلى كيان تابع.
وفي موازاة ذلك، يجب على أوروبا أن تستعد لعالم جديد، لأن العودة إلى ما قبل الأزمات أصبحت أمرًا مستحيلًا. نحن مقبلون على نظام عالمي سيُبنى على أنقاض النظام الذي نشأ عام 1945 بعد الحرب العالمية الثانية، ومن الضروري أن يكون للاتحاد الأوروبي مقعد على طاولة اتخاذ القرارات الكبرى.
لكن لتحقيق ذلك، عليه أولًا أن ينجو من الفوضى الحالية، ويحمي حرياته، ويعيد إحياء نموذج بدأ يظهر عليه التعب والإنهاك.
وكما قالت دومينيك ميدا، فإن الاتحاد الأوروبي، في ظل التهديدات المتصاعدة، يبدو “مطمئنًا” أكثر من أي وقت مضى. لقد تطلّب الأمر رئاسة ترامب بكل تجاوزاتها لنكتشف هذه الحقيقة.