حصلت دول العالم على استقلالها خلال العقود الأخيرة، إلا أنها تستمر مرتبطة ببعض مظاهر الاستعمار، أو الثقافة الكولونيالية، وتتمظهر في هياكل سياسية ودبلوماسية مثل الفرنكفونية والكومنولث وتجمع إيبوروأمريكية، وهي تجمعات لا معنى لها، لأنها تمس سيادة الدول والشعوب. ومن دون وعي تاريخي، يردد عدد من المثقفين والإعلاميين والباحثين الأكاديميين، مصطلحات ذات حمولة تبخيسية في العمق مثل، العالم الفرنكوفوني ضمن مصطلحات أخرى. وتنخرط دول يفترض أنها ذات سيادة في محافل مثل الفرنكفونية ورابطة الكومنولث، وظهرت خلال السنوات الأخيرة محافل وقمم جديدة تستهدف القارة السمراء أساسا مثل، قمة «فرنسا – القارة الافريقية»، أو «الصين- القارة الافريقية».
وعمليا، طريق السيادة الحقيقية شاق وطويل بالنسبة للدول، التي كانت ترزح تحت نير وبطش الاستعمار، لأن الفترة الزمنية الطويلة للاستعمار تركت المستعمرات في بعض الأحيان من دون سيادة حقيقية، رغم الحصول على الاستقلال، لأنها تحتاج لخبراء القوة الاستعمارية السابقة وقروضها المالية، وتبقى القارة السمراء هي التي تعاني كثيرا من هذه الظاهرة، وتشكل فرصة للقوى الاستعمارية، بل حتى للتي تبحث عن نفوذ جديد بممارسة استغلالها في هذا الشأن.
شعارات سياسية
وهكذا، ظهرت الفرنكفونية سنة 1970 كمنظمة تضم عشرات الدول تحمل شعارات سياسية وتنموية براقة، لكنها تبقى في العمق تسييد النموذج الفرنسي في العالم والدفاع عن اللغة والحضارة الفرنسية. وإذا كانت فرنسا قد استعملت القوة العسكرية في استعمار دول تحت مبرر نقل الحضارة الغربية، وتمدين شعوب وأمم كانت تعتبرها متخلفة جدا، فهي تراهن الآن على القوة الناعمة، بجعل المستعمرات السابقة مرتبطة بالمتروبول باريس عبر ما يمكن اعتباره ظاهريا العامل الثقافي. ونجد منظمة أقدم من الفرنكفونية وذات طابع سياسي واضح وهي رابطة الكومنولث، التي ظهرت سنة 1931 واشتد عودها بعد سنة 1971 في قمة سنغافورة، بإعلانها الشهير دول الديمقراطية والسلم العالمي، وهي رابطة الدول التي كانت تحت نير الاستعمار البريطاني، وما زال البعض منها مرتبطا بالتاج البريطاني مثل، أستراليا وكندا وجامايكا.
ونجد منظمة أخرى وهي الإيبروأمريكية التي تضم العالم الناطق بالإسبانية والبرتغالية، التي يعود تأسيسها إلى سنة 1949، وهي الأقل حضورا من الفرنكفونية والكومنولث في الساحة الدولية، فمن جهة، لا تقودها دولة كبيرة من حجم فرنسا وبريطانيا، ومن جهة أخرى، لا تمتلك إسبانيا ولا البرتغال وزنا سياسيا كبيرا للتأثير في مستعمراتها السابقة في القارة الأمريكية، لاسيما أن بعض الدول مثل البرازيل ستتفوق سياسيا واقتصاديا على إسبانيا والبرتغال، وتعد مثل هذه المنظمات تقليلا من سيادة أمم الجنوب التي عانت الكثير من الاستعمار، وذلك لسببين وهما:
السيادة الوطنية
في المقام الأول، استمرار الانضمام إلى هذه المنظمات يكون على حساب السيادة الوطنية مثل، استمرار الترويج للغة وثقافة المستعمر السابق، وكأنه اعتراف وتكريم صريح بما يعتبره الاستعمار «نشر الرسالة الحضارية». وهذا يؤدي إلى مزيد من التبعية الثقافة وما يترتب عنها من تبعية سياسية واقتصادية. وبينما تروج هذه الدول الاستعمارية لثقافاتها ولغاتها، تضع شروطا مجحفة إلى مستوى العراقيل أمام رغبة دول من الجنوب في نشر لغتها وثقافتها ليس وسط الغرب، بل وسط جالياتها المقيمة في الغرب. وكم من تقرير رسمي أوروبي وصف تشجيع اللغة العربية في أكثر من بلد غربي بأنه عمل ضد الاندماج وضرب الهوية الوطنية الغربية، وفي بعض الأحيان يشجع على التطرف الإسلامي.
في المقام الثاني، استمرار مثل هذه الهياكل السياسية – الدبلوماسية يحول دون محاسبة الدول الاستعمارية عن جرائم ماضيها الاستعماري البشع من تقتيل الشعوب ونهب ثرواتها. ويحدث هذا في وقت بدأت فكرة محاسبة الاستعمار تنتعش في الجنوب من خلال ظهور مثقفين وحركات سياسية والمجتمع المدني تطالب بفتح ملف التعويض عن جرائم الماضي.
وفي استمرار لمحاولات ربط القارة السمراء بنفود الدول الكبرى، وإلى جانب الفرنكفونية والكومنولث، بدأت تظهر قمم مثل القمة الفرنسية – الافريقية، التي تجمع دول القارة مع فرنسا. ويتكرر الأمر مع القمة الصينية – الافريقية، والقمة الروسية – الافريقية. وتحمل شعارات التنسيق السياسي والاقتصادي. ويحدث هذا في وقت لا نجد قمة فرنسا – أمريكا اللاتينية أو قمة ألمانيا – القارة الآسيوية.
الداعم الحقيقي للديكتاتوريات
وهذا النوع من القمم الجديدة، وإن كان ظاهره إيجابيا بحكم التركيز على التنمية والتنسيق السياسي، ففي العمق هو صيغة جديدة ومخففة للفكر الكولونيالي، لأنه يجعل قارة بكامل دولها وكأنها تبحث عن وصي يأخذ بيدها لأنها لم تبلغ سن الرشد والنضج السياسي. وتتزامن هذه القمم مع الصراع القائم في العالم حاليا بين القوى الكبرى لاستقطاب باقي الدول الى صفوفها، ما يمهد للتدخل الأجنبي المتعدد في القضايا الداخلية للدول الافريقية.
رغم وجود الاتحاد الافريقي وتبلور أمم الجنوب، ورغم الكثير من الملفات المشتركة، تبقى القارة الافريقية مكونة من مناطق إقليمية ذات اهتمامات وأجندات مختلفة. ولهذا يمكن استيعاب قمم مثل قمة فرنسا مع دول شمال افريقيا، أو قمة بريطانيا مع القرن الافريقي، وقمة الصين مع المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا، أو قمة روسيا مع شمال افريقيا. لكن قمة فرنسا مع افريقيا بالكامل، أو مع روسيا أو الولايات المتحدة هو عمل من دون معنى جيوسياسي، باستثناء منح القوة الاستعمارية السابقة أو الدولة الكبرى صفة الوصي على الأفارقة. وعمليا، لا يوجد أي مشروع على شاكلة مارشال لصالح افريقيا تقوم به دولة كبرى بما في ذلك الولايات المتحدة والصين، أو تجمعات مثل الاتحاد الأوروبي.
من جانب آخر، كم هي مقرفة ومهينة تلك الصور التي تبرز رئيس دولة غربية استعمارية سابقة، وهو يرأس قمة بمشاركة رؤساء دول قارة بالكامل، وكأن هذا الرئيس بمثابة إمبراطور جديد يحيط به الخدم والحشم من كل جهة. وتبقى المفارقة أن رئيس المتروبول يتحدث عن حقوق الإنسان والشفافية والديمقراطية، بينما دولته هي الداعم الحقيقي للديكتاتوريات، وتستقبل بنوك بلده الأموال المهربة من الجنوب. لا تحتاج أمم الجنوب خاصة القارة الافريقية لقمم تحمل الكثير من طيات الماضي الاستعماري وتنتقص من سيادتها، بل تحتاج قمما تؤكد استقلاليتها السياسية والثقافية. ويكفي أن الكثير من أصوات الجنوب، بل والكثير من الدول بدأت تناهض هذه التجمعات، وتنحسب منها دفاعا عن الكرامة. ولهذا، تبقى تجمعات مثل الفرنكفونية والكومنولث قوة ناعمة بعمق استعماري وكولونيالي بائد.