حين أعاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض شعاره الشهير “أمريكا أولاً”، لم يكن يعلن فقط عن بداية ولاية جديدة، بل عن عودة مقاربة صدامية للاقتصاد العالمي، تتخذ من الصين خصمًا أولًا ومحورًا لحرب تجارية متجددة. هذه الحرب، وإن أعيد تغليفها بشعارات الحماية الصناعية وتوازن العجز التجاري، إلا أنها في جوهرها صراع نفوذ، يخفي خلفه توجسًا أمريكيًا من تحوّل بكين إلى قطب عالمي مستقل ومنافس في كل المجالات، من التكنولوجيا إلى الأمن، مرورًا بالأسواق المالية والطاقة.
لكن، وعلى عكس ما يتوقعه دعاة “الردع التجاري”، لم تظهر الصين في موقع الضعف، بل بدا واضحًا أن البلاد تتعامل مع هذه الحرب بوصفها امتحانًا طويل النفس، لا يمكن مواجهته بردود فعل شعبوية أو برفع الصوت، بل بخطاب أكثر هدوءًا وإستراتيجية أكثر تعقيدًا.
رد غير صاخب… لكن فعّال
لم تدخل الصين في حلبة الصراع بنبرة عدوانية. لم تلوّح بإغراق الأسواق أو التلاعب بالعملة، بل سلكت مسارًا مزدوجًا: من جهة، تصعيد محسوب للردود الجمركية ضد المنتجات الأمريكية؛ ومن جهة أخرى، تسريع استراتيجيات الانفكاك الاقتصادي من التبعية الغربية، سواء في سلاسل التوريد أو في التكنولوجيا.
الصين لم تتعامل مع الرسوم الجمركية كأزمة، بل كمحفّز لمراجعة الداخل، وإعادة بناء نماذج الإنتاج والاستهلاك. حكومة بكين استثمرت في السوق الداخلية، دعّمت الاستهلاك المحلي، وأطلقت مبادرات لتمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة، ووسّعت التجارة مع محاور بديلة مثل دول “بريكس” ورابطة آسيان وأمريكا اللاتينية.
التحول من “مصنع العالم” إلى قطب تكنولوجي
ما لا يريد صقور واشنطن الاعتراف به، هو أن الصين اليوم لم تعد مجرّد دولة تصدّر السلع الرخيصة. لقد أصبحت منافسًا جادًا في قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، وتكنولوجيا الجيل الخامس. شركات مثل “هواوي” و”بايت دانس” و”SMIC” باتت رموزًا لهذا التحول، وهو ما يفسر موجة العقوبات ومحاولات الحظر والتضييق الأمريكي.
لكن رغم هذه الضغوط، لم تتوقف عجلة الابتكار الصيني. بالعكس، كشفت الحرب التجارية حدود الهيمنة الأمريكية، وأجبرت بكين على تسريع مشاريعها الاستراتيجية، مثل “صنع في الصين 2025” ومبادرة “الحزام والطريق”، التي لم تعد اقتصادية فقط، بل أصبحت تعبيرًا عن إرادة سياسية بالاستقلال عن مراكز القوى التقليدية.
الحرب التجارية… سلاح ذو حدين
قد يحقق ترامب نقاطًا سياسية داخلية بهذه الحرب، خاصة في الولايات المتأرجحة التي خسرت مصانعها لصالح آسيا، لكن على المدى البعيد، من الصعب أن تنجح هذه المقاربة في فرملة التمدد الصيني. أولًا لأن الصين لم تعد تعول على السوق الأمريكي وحده، وثانيًا لأن العالم نفسه لم يعد يحتمل فكرة القطبية الواحدة.
بل إن دولًا أوروبية وآسيوية بدأت تبدي تململًا من منطق العقوبات الشامل، وتسعى إلى الحفاظ على قنوات التعاون مع بكين، لأنها ببساطة لم تعد تملك رفاهية خسارة شريك اقتصادي بحجم الصين.
البراغماتية الصينية: قوة الصبر والتخطيط
من الخطأ قراءة ردود الصين من زاوية الضعف أو الخوف. فبكين لا تستعجل المواجهة، لكنها لا تتنازل عن ثوابتها. تردّ بهدوء، لكنها لا تنكفئ. وهي تدرك أن المعركة ليست فقط في الأرقام، بل في إدارة الإدراك العالمي.
وإذا كانت واشنطن تستند إلى خطاب العظمة والهيمنة، فإن بكين تقابل ذلك بخطاب “التنمية المشتركة” والشراكة طويلة المدى، وهو خطاب وإن بدا أقل بريقًا، إلا أنه أكثر قبولًا في الجنوب العالمي، الذي تعب من لغة الإملاء والتبعية.
الصين في الطريق الصحيح
الحرب التجارية التي أشعلها ترامب قد تُربك المعادلات الاقتصادية مرحليًا، لكنها لن توقف عجلة الصين. لأن ما تملكه بكين اليوم يتجاوز فائضًا تجاريًا أو رصيدًا ماليًا، إنها تملك رؤية واضحة لنظام عالمي أكثر توازنًا، وأكثر عدالة. ولذلك، فإن السؤال الحقيقي لم يعد: “هل ستنجو الصين من هذه الحرب؟” بل: “كيف ستعيد تشكيل العالم بعدها؟”