تدخل العلاقات الجزائرية الفرنسية منعطفًا غير مسبوق بعد أن أعلنت باريس استدعاء سفيرها في الجزائر للتشاور، فيما ردّت الجزائر بطرد 12 موظفًا في السفارة الفرنسية، في خطوة بالغة الدلالة، لم تشهدها العلاقات الثنائية بهذا الشكل منذ سنوات طويلة. الأزمة الحالية، التي تراكمت على وقع تباين المواقف بشأن قضايا إقليمية وملفات تاريخية، باتت تنذر بتجميد فعلي للاتصال السياسي والدبلوماسي بين البلدين، خاصة في ظل إلغاء سلسلة لقاءات ومحطات كانت مبرمجة لتطويق التوتر.
لكن بخلاف ما كان عليه الحال في عقود سابقة، تدخل الجزائر هذه الأزمة بموقع تفاوضي أقوى نسبيًا، مدعومة بتحولات إقليمية ودولية، وبأوراق ضغط تتعامل بها بثقة أكبر.
أولى هذه الأوراق هي الوزن الطاقوي المتصاعد للجزائر في ظل أزمة الطاقة العالمية، خاصة بعد الحرب في أوكرانيا وانكفاء الإمدادات الروسية. الغاز الجزائري بات أحد البدائل الحيوية لأوروبا، وفرنسا ليست استثناءً. وبالرغم من أن باريس تعتمد على مصادر متنوعة، إلا أن الحفاظ على علاقة مستقرة مع الجزائر أصبح ضرورة جيوسياسية أكثر من كونه خيارًا دبلوماسيًا.
ثانيًا، تلعب الجزائر دورًا مهمًا في الملف الأمني في الساحل الإفريقي، وهي منطقة حيوية للمصالح الفرنسية. ومع تراجع النفوذ الفرنسي في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، تبدو الجزائر أحد الأطراف القليلة التي تملك شبكة علاقات متينة مع عواصم الساحل، وتستطيع التأثير في ملفات حساسة كمكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية. تجاهل هذا الدور أو الدخول في صدام مفتوح مع الجزائر قد يُفقد فرنسا ما تبقى من نفوذها في المنطقة.
ورقة ثالثة لا تقل أهمية، وهي العمق الشعبي والرمزي الذي تمثله العلاقة مع فرنسا داخل الجزائر نفسها، سواء من حيث الجالية الجزائرية في فرنسا أو من حيث ملف الذاكرة التاريخية الذي ظل يُستخدم من الطرفين كورقة ضغط أو مقايضة. لكن الفارق اليوم أن الجزائر لم تعد تتعامل مع هذا الملف من موقع المتلقي، بل تحاول فرض سرديتها التاريخية والدفع نحو اعتراف فرنسي أكثر وضوحًا بالماضي الاستعماري.
ورغم هذه القوة النسبية، إلا أن الجزائر تدير الأزمة بحذر، إدراكًا منها أن التصعيد الكامل قد لا يخدم مصالحها الاستراتيجية، خصوصًا في ظل تحديات اقتصادية داخلية، وتوازنات دقيقة في الإقليم. ولهذا، قد نشهد في الأسابيع المقبلة محاولات من أطراف ثالثة – أوروبية أو إقليمية – لإعادة قنوات الحوار بين البلدين.
في المقابل، تبدو فرنسا في موقف حرج، حيث تواجه تصاعد التوتر مع الجزائر بينما تخسر نفوذها في إفريقيا وتواجه تحديات داخلية مع الجاليات المغاربية. أي قطيعة طويلة الأمد مع الجزائر ستفقدها امتدادًا استراتيجيًا تاريخيًا، ليس من السهل تعويضه، لا دبلوماسيًا ولا اقتصاديًا.
في النهاية، تبقى الأزمة مرشحة للتصعيد أو الانفراج حسب ما إذا كانت باريس ستبادر بإعادة صياغة مقاربتها للعلاقة مع الجزائر، أو ستختار الاستمرار في منطق التفوق التاريخي الذي لم يعد صالحًا في موازين اليوم.