في الوقت الذي تشتد فيه الحرب على قطاع غزة، وتزداد المعاناة الإنسانية بشكل غير مسبوق، تبدو إيران – الداعم الإقليمي الأبرز لفصائل المقاومة الفلسطينية – منشغلة بمسار مختلف كليًا، هو التفاوض مع الولايات المتحدة من خلف الكواليس، في محاولة لإعادة ضبط علاقتها مع الغرب، واحتواء الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تخنق الداخل الإيراني.
فمنذ أشهر، بدأت تَرشَح معلومات عن محادثات غير معلنة بين واشنطن وطهران، سواء في سلطنة عُمان أو عبر وسطاء أوروبيين، تهدف إلى بحث ملفات متشابكة، أبرزها البرنامج النووي، وتبادل السجناء، وتخفيف العقوبات، ووقف التصعيد في الإقليم. وبحسب مصادر مطلعة، تسعى إيران من خلال هذه القنوات إلى تأمين حدٍّ أدنى من التهدئة يسمح لها بتخفيف الأعباء الاقتصادية المتزايدة، خاصة في ظل تراجع قيمة الريال، وتصاعد الاحتجاجات الداخلية، وتزايد العزلة الدبلوماسية.
هذا التوجه التفاوضي الإيراني يأتي في وقت تتعرض فيه غزة لحصار خانق وعدوان متواصل أودى بحياة الآلاف، فيما تعيش الفصائل الفلسطينية – خاصة حماس والجهاد الإسلامي – عزلة ميدانية بعد أشهر من المواجهة، دون غطاء إقليمي فعّال. وعلى الرغم من الخطاب الإعلامي الإيراني الداعم للمقاومة، فإن الموقف العملي على الأرض ظل حذرًا ومتراجعًا، خاصة بعد الضربات الجوية التي طالت مواقع إيرانية في سوريا، وتلك التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق.
ورغم التصعيد المحدود الذي قامت به طهران ردًا على استهداف قادتها العسكريين، إلا أن هذا الرد بدا مضبوطًا بعناية لتفادي مواجهة مفتوحة مع إسرائيل قد تجرّ المنطقة إلى حرب شاملة. ما يعكس إدراكًا إيرانيًا بأن لحظة المواجهة الكبرى لم تحن بعد، وأن أولوية النظام في هذه المرحلة هي الحفاظ على تماسك الداخل وتفادي الانهيار الاقتصادي، لا الدخول في صراعات إقليمية واسعة.
الأهم من ذلك، أن إيران تدرك أن أي انخراط مباشر في حرب مفتوحة من أجل غزة قد يُفقدها هامش المناورة مع الغرب، ويُعقّد مسار التفاوض الذي تراهن عليه لتخفيف العقوبات واستعادة جزء من نفوذها الاقتصادي. وهو ما يطرح تساؤلات مشروعة في الشارع العربي والفلسطيني: هل باتت القضية الفلسطينية ورقة تفاوض بيد إيران تُستخدم عند الحاجة ثم تُركن جانبًا؟ وهل تخضع غزة اليوم لحسابات إقليمية تتجاوزها وتُحدد مصيرها دون أن تكون على الطاولة أصلًا؟
الواقع أن طهران، كما العديد من القوى الإقليمية، تقيس تحركاتها بميزان المصالح لا الشعارات. ومع أن الدعم الإيراني لفصائل المقاومة لعب دورًا مهمًا في مراحل سابقة، فإن غزة اليوم تواجه مصيرها في عزلة شبه كاملة، حيث تختفي القوى الكبرى من مشهد المواجهة، وتظهر فقط على طاولة الحسابات الباردة.
في النهاية، يبدو أن إيران اختارت، في هذه المرحلة، أن تفاوض من أجل إنقاذ نفسها، لا من أجل غزة. وهذه المقاربة، مهما كانت مبررة استراتيجيًا من وجهة نظر طهران، تُظهر بوضوح كيف أصبحت القضية الفلسطينية رهينة أولويات الآخرين، لا محورًا لمواقفهم.