صادف يوم الأحد مرور ثلاثة أشهر على تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة. يا لها من رحلة مثيرة! فأسلوبه فظ، ولغته صاخبة، ونتائج أفعاله فوضوية.
بعيدًا عن الجانب الأخلاقي، فإن للفظاظة أهميتها؛ إذ تعبّر نبرة الصوت عن النية، وتعكس الشخصية. أما بالنسبة لترامب، فإن خروجه عن المألوف لا يعني الابتكار أو التجديد، بل يعني التوحش والتخريب. وتشير سياساته إلى تغيّر جوهري في موقف الولايات المتحدة وفي ما تمثله، ليس فقط من حيث الوسائل، بل أيضًا في الغايات.
لقد كان توبيخه للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض من أكثر التصرفات فظاظة في عالم السياسة، خصوصًا حين تحدث خلف الأبواب المغلقة. ولكن اللحظة الفاصلة – من الناحية السياسية والرمزية – تجلّت في الأمم المتحدة، عندما صوتت الولايات المتحدة ضد قرار إحياء الذكرى الثالثة للغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، إلى جانب روسيا.
يبدو أن ترامب يقرّب الخصوم ويبتعد عن الحلفاء، في محاولة لتحقيق “سلام سريع” في أوكرانيا، حتى لو تطلب الأمر منح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معظم ما يريده.
الرئيس الأمريكي مدفوع برغباته وأهوائه، ولا معيار لديه سوى السلطة: أبرم صفقة مربحة، حقق مكسبًا، عاقب أعداءك.
وصف ترامب جداره الجمركي بأنه “إعلان استقلال اقتصادي” من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة “قوية وثرية”. وردّ عليه الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، بول كروغمان، بأن ترامب يشنّ “حربًا تجارية عالمية” مدمرة، ويدمّر 80 عامًا من المصداقية خلال ثلاثة أشهر فقط بـ”تعرجات متهورة”.
أما التحدي الأكبر في أسلوب ترامب، فهو أن تلك “التعرجات” هي جوهر استراتيجيته.
فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية بنسبة 145% على البضائع الصينية، فردّت الصين برسوم جمركية بنسبة 125% على المنتجات الأمريكية. وهكذا، حظر متبادل بين أكبر اقتصادين في العالم.
وقد يلجأ ترامب، في النهاية، إلى التحايل لعقد صفقة رابحة مع الصين، لكن توجهاته الانعزالية والقومية تبقى راسخة.
فهو يرى أن الولايات المتحدة، على مدى عقود، “تعرضت للنهب والسلب والاغتصاب من دول صديقة وعدوة، قريبة وبعيدة على حد سواء”.
لقد ساهمت الولايات المتحدة في بناء النظام العالمي القائم اليوم، لكنها – في عهد ترامب – باتت تخاف من العالم الذي أنشأته، معلنةً بذلك نهاية “السلام الأمريكي”.
تُظهر الأشهر الثلاثة الأولى من ولايته الثانية أن ترامب تعلّم من تجربته الأولى، حين كان كبار المسؤولين يراقبون أهواءه ويكبحون اندفاعاته. أما اليوم، فرئيس أكثر خبرة يقود حزبًا جمهوريًا أُعيد تشكيله، ما يعني قيودًا أقل على “الكبار في الغرفة”.
استحق وزير الخزانة الجديد، سكوت بيسنت، لقب “الشخص البالغ” عندما دفع ترامب إلى تعليق الرسوم الجمركية المتبادلة المعلنة في الثاني من أبريل، لمدة 90 يومًا، بسبب تراجع سوق السندات.
لكن وول ستريت تتوقع ألّا يصمد بيسنت طويلًا، إذ أظهرت إدارة ترامب الأولى أن من يواجه الرئيس بالحقائق يعرّض مسيرته الوزارية للخطر.
يشن ترامب الآن هجومًا على أساسات واشنطن بهدف إحداث تغيير جذري. يهدم المؤسسات حتى تبرز رؤيته من بين الأنقاض. وعلى عكس ما جرى في ولايته الأولى – حيث كانت الحاشية تتصارع على السلطة بينما تواصل واشنطن عملها رغم شغور المناصب – فإن الوضع مختلف الآن: يتمتع الرئيس بالفخامة، وإدارته بقوة تنفيذية أكبر.
لا يزال يتمتع بلقب “الملك”، لكن سياسات “البلاط” باتت تُشكّل فصائل متنافسة.
وبما أن الولاء هو القيمة الأهم في نظر ترامب، فقد تجمع حوله فصيل من “المؤمنين الحقيقيين” تحت شعار قبعة “اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى”، ممن يرددون: “كان ترامب على حق في كل شيء”.
من بين هؤلاء من يرى في ترامب الأداة المثالية لـ”إحراق واشنطن”، كما ورد في العنوان الفرعي لكتاب صدر عن رئيس مؤسسة “هيريتدج” حول كيفية مأسسة الترامبية من خلال تفكيك المؤسسات.
وقد أطلقت المؤسسة مشروع “2025” لوضع أجندة محافظة لإدارة ترامب، تهدف إلى “إسقاط الدولة العميقة وإعادة الحكومة إلى الشعب”.
يريد خبراء التكنولوجيا – وعلى رأسهم إيلون ماسك – من ترامب إزالة القيود التنظيمية التي فرضتها واشنطن، لتتمكن الخوارزميات من السيطرة على العالم. وقد هاجم ماسك المستشار التجاري في إدارة ترامب، بيتر نافارو، واصفًا إياه بأنه “أغبى من كيس من الطوب”، تعبيرًا عن سخطه من الحرب التجارية.
تتعارض رؤية التكنولوجيين لعالم بلا حدود مع ولع ترامب بالحدود.
أما صقور السياسة الخارجية تجاه الصين، وعلى رأسهم وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايكل والتز، فيروّجون لرؤية جديدة تعتبر أن فترة ما بعد الحرب الباردة، حيث هيمنت الولايات المتحدة على العالم، كانت “استثناءً مؤقتًا”.
ويقول روبيو إن الولايات المتحدة تواجه اليوم عالمًا متعدد الأقطاب، حيث توجد قوى عظمى في مناطق مختلفة من العالم، مثل الصين وروسيا، إلى جانب دول مارقة كإيران وكوريا الشمالية.
الرأي القائل بأن أمريكا لم تعد بالقوة ذاتها هو حجر الأساس في خطاب ترامب. أما رده على ذلك فهو: “أمريكا أولًا”.
لكن الحلفاء يخشون أن تتحول هذه السياسة إلى “أمريكا فقط”، كما عبّر عن ذلك السفير الأسترالي السابق لدى واشنطن، آرثر سينودينوس.