في قلب مدينة صفاقس، وبين أزقة المدينة العتيقة وأطراف الأحياء الشعبية، لم يعد مشهد المهاجرين الأفارقة القادمين من دول الساحل الغربي مشهدًا استثنائيًا. فالوجود المتزايد لهذه الفئة، لا سيما في السنوات الأخيرة، أعاد تشكيل بعض ملامح الحياة اليومية في المدينة، لكنه في المقابل فتح بابًا واسعًا للهواجس والمخاوف، خاصة مع تصاعد الحوادث الأمنية وارتفاع منسوب التوتر الاجتماعي.
الهاجس الديمغرافي في ظل تدهور اقتصادي
لطالما اعتُبرت تونس بلد عبور لا وجهة استقرار للمهاجرين القادمين من إفريقيا جنوب الصحراء. لكن هذا الواقع تغيّر تدريجيًا مع تكدّسهم في المدن الجنوبية مثل صفاقس، ومع عجزهم عن الوصول إلى الضفة الأخرى من المتوسط. ومع تراجع قدرة الدولة على إدارة هذا الملف الشائك، بدأ التونسيون يتساءلون: هل نحن أمام تغيّر ديمغرافي فعلي؟ وهل تتحمّل البنية المجتمعية والاقتصادية لهذا البلد الصغير هذه الكثافة البشرية غير المتوقعة؟
الخوف لا ينطلق فقط من الأرقام، بل من التجربة اليومية. يتحدث السكان عن تحوّل بعض الأحياء إلى مناطق مغلقة فعليًا، يسكنها فقط المهاجرون غير النظاميين، مع ما يصاحب ذلك من غياب للرقابة، وتكرار لحوادث السرقة والسطو، وحتى المواجهات المسلحة بين مجموعات من المهاجرين أنفسهم.
ليلى بن عمار، مواطنة من صفاقس، تتحدث لـ”ميدل إيست”: “لسنا عنصريين، لكن الوضع انفجر”
في لقاء مع “ليلى بن عمار”، موظفة وأم لثلاثة أطفال، تعيش في حي الزياتين، تقول:
“نحن لا نعادي أحدًا، وتونس كانت دائمًا بلد ضيافة وسلام، لكن ما نراه اليوم مخيف فعلًا. لم نعد نشعر بالأمان، لا أنا ولا أبنائي. قبل أسبوع فقط، تعرّض جاري لمحاولة سطو مسلح من طرف مجموعة من الشباب الأفارقة، وكان معهم سكاكين. الشرطة حضرت، لكن بعد أن هربوا. هذه ليست المرة الأولى، وتكرار الحوادث بدأ يزرع الذعر في النفوس.”
وتضيف ليلى، بصوت يحمل شيئًا من الحزن:
“الناس تعبت. الوضع الاقتصادي خنق التوانسة، والبطالة تضرب أبناءنا، واليوم نحن مطالبون بأن نتحمّل تداعيات وجود آلاف المهاجرين العالقين، دون أي حلول جدية من الدولة أو من الاتحاد الأوروبي الذي يُحمّلنا عبء حدوده.”
اتفاقات أمنية تحت الضغط الأوروبي
في سياق إدارة هذا الملف الشائك، لجأت الحكومة التونسية إلى توقيع عدد من الاتفاقات الأمنية مع الاتحاد الأوروبي، أبرزها الاتفاق الموقع في يوليو 2023، والذي يتضمّن مساعدات مالية مقابل تشديد الرقابة على الحدود ومنع تدفق المهاجرين نحو أوروبا. ورغم وصف الاتفاق بأنه “شراكة إستراتيجية”، إلا أن جزءًا واسعًا من التونسيين يعتبرونه نوعًا من المقايضة التي تضع البلاد في موقع “الحارس غير المأجور” لبوابة الهجرة نحو أوروبا.
وقد تعرّض هذا الاتفاق لانتقادات من منظمات حقوقية رأت فيه انتهاكًا لحق طالبي اللجوء، خاصة مع تواتر أخبار عن عمليات ترحيل قسري، ومعاناة المهاجرين في ظروف احتجاز غير إنسانية.
السلطات بين المطرقة والسندان
السلطات التونسية تجد نفسها بين نارين: من جهة ضغط أوروبي متواصل لكبح موجات الهجرة غير النظامية، ومن جهة أخرى تصاعد الغضب الشعبي في المدن الجنوبية، حيث يشعر المواطنون بأن الدولة تخلّت عنهم وتركتهم يواجهون مصيرًا ضبابيًا مع غرباء أصبحوا يشاركونهم المعيشة والمساحات والموارد المحدودة.
وفي ظل غياب إستراتيجية واضحة وشاملة للهجرة، تتنامى المخاوف من أن يتحول هذا الوضع إلى فتيل احتقان اجتماعي قابل للانفجار، خاصة مع ازدياد مظاهر العنف وتزايد التنافس على لقمة العيش، وتراجع قدرة الدولة على حفظ التوازن بين الأمن الإنساني والأمن الاجتماعي.
ملف الهجرة فوق نار شعبية
ما يحدث اليوم في صفاقس ليس قضية محلية فقط، بل صورة مصغّرة لما قد تواجهه تونس كلها في السنوات القادمة إذا استمر تجاهل معالجة الملف بمقاربة واقعية. فالهجرة لم تعد قضية حدود، بل قضية وجود. بين مشاعر التضامن ومشاهد الفوضى، بين الالتزامات الأوروبية ومطالب التونسيين، يبدو أن تونس تقف اليوم أمام معادلة حساسة: كيف تبقى بلدًا مضيافًا دون أن تتحول إلى ساحة انفجار اجتماعي؟