مع نشر تقرير صحيفة نيويورك تايمز حول خطة إسرائيلية سرّية لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية في مايو/أيار الماضي، اتضح أن الديناميات الخفية في الصراع الإقليمي بين طهران وتل أبيب كانت على وشك التحول إلى مواجهة شاملة، لولا تدخل اللحظة السياسية الأميركية وميل إدارة دونالد ترامب إلى منح الدبلوماسية فسحة جديدة.
ما كشفه التقرير ليس تفصيلاً صغيراً في المشهد، بل إشارة خطيرة إلى مدى استعداد إسرائيل لخوض مغامرة عسكرية ضد إيران، تتجاوز التصريحات التقليدية والعمليات الاستخباراتية المحدودة، نحو مواجهة مفتوحة تتطلب تغطية جوية، وتنسيقاً ميدانياً مباشراً مع الجيش الأميركي. وهذا بحد ذاته تطوّر نوعي في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي، يُظهر حجم القلق من الاقتراب الإيراني المحتمل من العتبة النووية.
الخطة التي طُرحت – كما ورد في التقرير – تضمنت مقاربة متعددة الأبعاد: قصف مشترك بين تل أبيب وواشنطن، مدعوم بعمليات كوماندوز إسرائيلية تستهدف مواقع نووية تحت الأرض، ما يعني أن إسرائيل كانت ترى أن الضربات الجوية وحدها لن تكون كافية، وأن المهمات الخاصة ستكون ضرورية لتعطيل البنية التحتية النووية الإيرانية. هذه الخطة الطموحة كانت تستدعي أشهرًا من التحضير، وتطلبت بالضرورة التزامًا أميركيًا سياسيًا ولوجستيًا، وهو ما لم يتحقق.
الرفض الأميركي، الذي جاء شخصيًا من الرئيس ترامب، لم يكن نابعا فقط من رغبة في تجنب التصعيد، بل من رؤية أوسع لإمكانية احتواء إيران عبر المفاوضات. ترامب، الذي كان يرى في الدبلوماسية أداة لاستعادة السيطرة على الملف النووي دون الانخراط في حرب جديدة، أراد منح طهران “فرصة لتصبح دولة عظيمة”، على حد تعبيره. موقف لم يكن مفاجئًا تمامًا، فهو يتماشى مع سلوك الإدارة الأميركية في أكثر من ملف خلال تلك الفترة، حيث فضّلت واشنطن إدارة الأزمات ببرود سياسي عوض الانجرار إلى مواجهات مباشرة، خصوصًا في عام انتخابي حساس.
بالنسبة لإسرائيل، شكل هذا الموقف خيبة أمل واضحة. إذ لطالما اعتبرت أن التهديد الإيراني ليس قابلًا للتأجيل، وأن أي تسويف قد يمنح طهران الوقت الكافي لتجاوز الخطوط الحمراء، في طريقها إلى امتلاك القدرة النووية الكاملة. تسريب الخطة، بحسب مصادر عسكرية إسرائيلية، ألحق ضررًا فعليًا بها، خاصة أنه كشف عن مستوى التنسيق المطلوب، وآليات التحرك، وجعل عنصر المفاجأة – الحاسم في مثل هذه العمليات – في مهب الريح.
رد الفعل الإسرائيلي الرسمي لم يتضمن نفيًا، بل سعى إلى التذكير بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لطالما قاد جهودًا “علنية وسرية” ضد البرنامج النووي الإيراني، وهو تصريح يحمل في طياته إقرارًا ضمنيًا بأن التخطيط العسكري ضد إيران لم يكن أمرًا نظريًا، بل خيارًا مطروحًا على الطاولة بجدية.
التحليل الأوسع لهذا المشهد يكشف أن ما جرى لا يعكس فقط التوتر التقليدي بين إسرائيل وإيران، بل يعكس حدود العلاقة الأميركية–الإسرائيلية في مرحلة دقيقة. فمن جهة، تعتمد إسرائيل على الدعم الأميركي الاستراتيجي في كل تحرك عسكري كبير، ومن جهة أخرى، تحتفظ واشنطن بحقها في تقرير اللحظة المناسبة لأي انخراط عسكري، وفق حساباتها الجيوسياسية الأكبر، التي قد لا تتطابق دائمًا مع أولويات تل أبيب.
اللافت أن هذه الواقعة تكشف أيضاً طبيعة التباين داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نفسها. فبينما يضغط بعض العسكريين باتجاه توجيه ضربة استباقية، يرى آخرون أن العمل المنفرد دون مظلة أميركية قد يكون مغامرة مكلفة، لا سيما إذا ردّت إيران بإطلاق صواريخ على العمق الإسرائيلي أو عبر حلفائها في لبنان وسوريا واليمن، ما قد يفتح جبهة إقليمية واسعة لا يمكن احتواؤها بسهولة.
وفي الخلفية، تتواصل المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران في روما، وسط جو مشحون بالتوتر. لكن المفارقة أن هذه المحادثات، التي جاءت كبديل عن الحرب، لم تثمر حتى الآن عن اختراق حاسم، ما يعيد إلى الواجهة السؤال الأهم: إلى متى يمكن احتواء الطموح النووي الإيراني بالوسائل الدبلوماسية فقط؟ ومتى تفقد إسرائيل صبرها فعليًا، لا نظريًا؟
في نهاية المطاف، يبقى المشهد محكومًا بتوازن هش بين الرغبة في الضربة والرهان على التفاوض، بين ضغط الزمن النووي الإيراني وضبط النفس الأميركي، في معادلة دقيقة لا تزال قابلة للانفجار عند أول تغير في المزاج السياسي أو الميداني.