في تطور لافت، خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصريح اعتُبره كثيرون بمثابة تلميح غير مباشر إلى استعداد موسكو للدخول في مفاوضات مباشرة مع أوكرانيا، في ما يبدو وكأنه محاولة جديدة لتليين المواقف أو إعادة تموضع سياسي في لحظة دقيقة من مسار الحرب الطويلة. فخلال مقابلة متلفزة مع القناة الرسمية الروسية، قال بوتين إنه “ينظر بإيجابية إلى أي مبادرات سلام”، معربًا عن أمله في أن “تشعر كييف بالمثل”. هذه الكلمات، التي جاءت في سياق مدروس، حملت بين سطورها رسائل مزدوجة: من جهة، حرص على إظهار الكرملين كطرف منفتح على الحلول السلمية؛ ومن جهة أخرى، محاولة لإعادة ضبط الرواية الروسية أمام المجتمع الدولي، الذي بدأ يُظهر تململاً متزايدًا من استمرار الحرب على هذا النحو الاستنزافي.
حذر روسي ورسائل متناقضة
لكن، وبما يشبه التراجع أو التحفظ المدروس، جاء تصريح المتحدث باسم الكرملين في اليوم الموالي لينسف كل احتمال لأي تقارب وشيك، مؤكدًا أن “لا توجد خطط ملموسة لإجراء محادثات مع أوكرانيا حاليًا”. هذا التناقض الظاهري بين ما قاله بوتين وما أكده المتحدث باسمه يعكس، على الأرجح، حالة من الحذر الروسي في الكشف عن حقيقة النوايا، وربما أيضًا اختبارًا لنوايا الطرف المقابل في كييف، الذي لا يزال يرفض حتى اللحظة فكرة الجلوس إلى طاولة واحدة مع من يعتبرهم “مجرمي حرب ومحتلين”.
السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا التناقض الظاهري هو: لماذا يلوّح بوتين الآن، وفي هذا التوقيت تحديدًا، بإمكانية التفاوض؟ هل بات الكرملين يشعر بأن الحرب استنزفت موارد روسيا وقدرتها على الحسم العسكري؟ أم أن ثمة تحولات دولية تُقرأ بدقة في موسكو وتُترجم إلى تغيير في اللهجة دون تغيير في الجوهر؟ من المرجّح أن تكون كل هذه العوامل مجتمعة هي التي دفعت بوتين إلى الإيحاء برغبته في فتح باب الحوار، ولكن وفق شروط يضمن من خلالها تثبيت ما حققه ميدانيًا حتى الآن.
ذلك أن الحرب، رغم ما راكمته موسكو من مكاسب ميدانية، لا تزال بعيدة عن الحسم. فقد أثبتت المقاومة الأوكرانية، بدعم مباشر من الغرب، أنها قادرة على إبطاء التقدم الروسي، بل وتكبيد موسكو خسائر كبيرة بشريًا ولوجستيًا. في الوقت ذاته، لم تعد العقوبات الاقتصادية مجرد ورقة ضغط إعلامية، بل تحوّلت إلى أزمة داخلية حقيقية تطال قطاعات واسعة من الاقتصاد الروسي، وتدفع الكرملين إلى البحث عن سيناريوهات بديلة قد تفضي إلى حلول سياسية لا تُظهر روسيا بمظهر المنهزمة، لكنها تُخفّف من وطأة الاستنزاف المستمر.
ثم إن بوتين ليس غافلًا عن التغيرات الحاصلة في مواقف بعض الدول الغربية. فتراجع الزخم الأمريكي في دعم أوكرانيا، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، وتنامي الأصوات الأوروبية التي تدعو إلى الحلول الدبلوماسية بدل الاستمرار في التصعيد، كلها معطيات تدفع روسيا إلى إعادة تموضع تكتيكي، يُبقي اليد العليا على الأرض، لكنه يُمهّد لحوار قد يُعقد مستقبلًا من موقع قوة وليس من موقع تنازل.
اصرار أوكراني باسترجاع الأراضي
لكن، أمام هذه الإشارات الروسية، تظل أوكرانيا متمسكة بموقف صارم عبّر عنه الرئيس فولوديمير زيلينسكي مرارًا، مفاده أن أي حوار لا يبدأ بانسحاب روسي كامل من الأراضي المحتلة، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، فهو حوار مرفوض. هذه المقاربة المتشددة، التي تحظى بدعم كبير من الشارع الأوكراني، تعني أن أي مفاوضات – إن تمت – ستكون مشروطة ومحفوفة بإشكاليات كبرى، أبرزها مسألة ترسيم الحدود الجديدة، والاعتراف أو عدم الاعتراف بالضم الروسي لمناطق دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا.
في هذه النقطة تحديدًا تكمن إحدى أعقد عقد التفاوض المرتقب. فروسيا، التي ضمّت هذه الأقاليم رسميًا، لن تدخل في مفاوضات تُعيد من خلالها ما تعتبره أراضي روسية. بينما أوكرانيا، من ناحيتها، ترى في هذه الأراضي جزءًا لا يتجزأ من سيادتها الوطنية. أي أن طاولة المفاوضات – في حال فُتحت – ستكون مسرحًا لصراع الخرائط قبل أن تكون مسرحًا للتفاهمات السياسية.
في ضوء هذا التباين العميق في المواقف، يمكن القول إن فرص نجاح أي مسعى تفاوضي تظل رهينة عاملين اثنين: الأول يتعلق بتوازنات القوى على الأرض، أي ما إذا كانت روسيا ستستمر في التقدم أم ستُجبر على التراجع. والثاني مرتبط بمواقف العواصم الكبرى، وخصوصًا واشنطن وبروكسل، لأنهما تمثلان الداعم الرئيسي لكييف، وصمتهما أو تراجعهما عن الخطاب المتشدد قد يدفع أوكرانيا إلى التفاوض من موقع أضعف.
لايزال المستقبل غامضا
في المحصّلة، لا يمكن اعتبار تلميحات بوتين نقطة تحول فعلية في الحرب الأوكرانية، لكنها تُظهر بوضوح أن موسكو باتت أكثر وعيًا بكُلفة استمرار القتال، وأكثر حذرًا من الانزلاق نحو مأزق استراتيجي طويل الأمد. ومع ذلك، فإن ترجمة هذه التلميحات إلى مبادرات ملموسة ستظل مرهونة بتغيّر موازين القوى، أو على الأقل، باستعداد أحد الطرفين لتقديم تنازل جوهري يُمكن البناء عليه للوصول إلى اتفاق شامل، وهو ما لا يبدو في الأفق القريب.