في مشهد يعكس تداخلاً عميقًا بين السياسة والاقتصاد، عاد دونالد ترامب ليوجه نيرانه الكلامية نحو جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، متهمًا إياه بالتباطؤ والتقاعس عن دعم الاقتصاد الأميركي، ومطالبًا بخفض عاجل في أسعار الفائدة. هذه الهجمة تأتي في توقيت حساس يشهد فيه الدولار الأميركي اتجاهاً نحو التراجع ثلاث مرات متتالية، وسط مؤشرات تزداد غموضًا بشأن صحة الاقتصاد الأميركي في المرحلة القادمة.
ترامب، الذي لا يفوّت فرصة للظهور عبر منصته المفضلة “Truth Social”، نشر مؤخرًا تدوينة وصفت جيروم باول بـ”الخاسر الكبير”، متهمًا إياه بأنه متأخر عن الركب في مواجهة التحديات الاقتصادية، ومشدداً على أن الفائدة المرتفعة لا تفيد سوى في كبح النمو وإضعاف القدرة التنافسية للولايات المتحدة، في وقتٍ تُظهر فيه الاقتصادات الأخرى – وعلى رأسها منطقة اليورو – مرونة أكبر من خلال خفض سريع لأسعار الفائدة.
في التدوينة نفسها، استخدم ترامب لهجة هجومية حادة: “لا يمكننا أن نتحمل جيروم باول أكثر من ذلك… إنه متأخر جدًا، خاسر كبير، يرفض خفض الفائدة بينما الاقتصاد يحتاجها الآن!”، وأضاف مقارنة ساخرة بين الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي الذي خفّض معدلات الفائدة سبع مرات في أقل من عام، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة بدت في نظره كمن يسير بخطى بطيئة خلف خصومه الدوليين.
هذا التصعيد ليس جديدًا. فمنذ تولي ترامب الرئاسة عام 2016، دأب على مهاجمة الاحتياطي الفيدرالي كلما شعر أن سياساته النقدية لا تتماشى مع طموحه الاقتصادي. ورغم أنه هو من رشّح باول لمنصب رئاسة الاحتياطي الفيدرالي عام 2018، إلا أن العلاقة بين الطرفين شابها توتر دائم، لا سيما حين بدأ باول برفع الفائدة تدريجياً في ذلك الوقت، وهو ما رآه ترامب مهددًا مباشرًا لآماله في تحقيق طفرة اقتصادية قبل الانتخابات الرئاسية.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل بالفعل تأخر باول في خفض الفائدة؟
من وجهة نظر بعض الاقتصاديين، فإن الفيدرالي الأميركي واجه معضلة مزدوجة خلال الأشهر الأخيرة. فمن ناحية، تباطأت بعض المؤشرات الاقتصادية، لا سيما في قطاعات الإنتاج والتوظيف، ومن ناحية أخرى، لم ينخفض معدل التضخم بالشكل الكافي الذي يبرر خفضًا سريعًا للفائدة دون المخاطرة بإعادة إشعال موجة تضخمية جديدة. لهذا السبب، اتسم موقف باول بالحذر، مفضّلًا الانتظار ومراقبة السوق عن كثب قبل اتخاذ أي خطوة جذرية.
أما الأسواق، فقد تفاعلت بشكل متذبذب. الدولار بدأ يهبط تدريجياً أمام سلة العملات الرئيسية، مما زاد من قلق المستثمرين، لكن في المقابل، هناك من رأى في الضغط الترامبي مؤشراً على أن الفائدة قد تنخفض عاجلًا أم آجلًا، الأمر الذي حفّز بعض الأصول، مثل الذهب، على الارتفاع.
ما يزيد من تعقيد المشهد أن تصريحات ترامب جاءت في سياق حملته الانتخابية المقبلة، ما يجعل من الصعب فصل المطالب الاقتصادية عن حسابات السياسة الداخلية. فالرجل يدرك تمامًا أن الاقتصاد هو سلاحه الأقوى في مخاطبة الناخب الأميركي، وأن أي تحسن في النمو أو انخفاض في معدلات الفائدة سيصب في صالحه على مستوى الصورة العامة، ولو مؤقتًا.
لكن الفيدرالي الأميركي، كمؤسسة مستقلة دستوريًا، لا يخضع مباشرة للبيت الأبيض، وتاريخه يشهد على مقاومته المتكررة لمحاولات التدخل السياسي. باول نفسه أكد في أكثر من مناسبة أن قرارات الفيدرالي لا تتأثر بالضغوط السياسية، بل تُبنى على معطيات علمية وتحليلات اقتصادية معمقة، في إشارة واضحة إلى رفضه الانصياع للتوجيهات العلنية من ترامب أو غيره.
يبقى الأكيد أن الأشهر القادمة ستشهد اختبارًا حقيقيًا لهذه العلاقة المتوترة بين البيت الأبيض والفيدرالي. فبينما يزداد ترامب إصرارًا على فرض رؤيته الاقتصادية، يراهن باول على استقلاليته وقدرته على ضبط إيقاع السوق في وجه التحديات.
وحتى تتضح الصورة، سيبقى الدولار عالقًا في منطقة رمادية، يتأرجح بين خطاب سياسي متوتر، وقرار نقدي لم يُحسم بعد.