تطبيع الجريمة في غزة لم يعد مجرد ظاهرة عابرة مرتبطة بزمن الحرب، بل تحول إلى عملية مدروسة تهدف إلى ترسيخ الجرائم الإسرائيلية كجزء من “الوضع الطبيعي”، سواء على مستوى الإعلام الدولي أو في إدراك الرأي العام العالمي. التدرج في وحشية الجرائم، وتكرار استهداف المنشآت المدنية وعلى رأسها المستشفيات، لم يؤدِّ إلى تصعيد الغضب، بل ساهم مع مرور الوقت في خلق حالة من الاعتياد والتبلد تجاه مشاهد الموت والدمار.
استهداف المستشفى المعمداني مرتين في أقل من عام يكشف هذه الآلية بوضوح. الجريمة الأولى في تشرين أول/أكتوبر 2023 أثارت موجة غضب عالمية عارمة، حيث لم تستطع حتى الدعاية الغربية أن تغطي على هول المجزرة. لكن مع القصف الثاني لنفس المستشفى في نيسان/أبريل الحالي، مرت الجريمة بهدوء نسبي، مع غياب ردود الفعل الدولية الجادة، مما يوضح كيف تعمل آلة التطبيع: الجرائم المتكررة تفقد قدرتها على إحداث الصدمة، والإحساس بالجريمة يضعف مع الزمن، كما أشار ابن حجر العسقلاني إلى “إلف النفوس لما تكرر عليها”.
إنتاج نكبة جديدة
هذا التطبيع للجريمة يخدم إسرائيل بعمق. إذ يجعل استهداف المدنيين والبنية التحتية الحيوية في غزة جزءاً مقبولاً من مشهد الحرب، ويخفف من الضغط السياسي والدبلوماسي على الاحتلال. عبر إعادة تعريف ما هو مقبول وغير مقبول، تصبح الجرائم الإسرائيلية وكأنها جزء من قوانين الحرب غير المكتوبة: أحداث مأساوية يتم التعايش معها بدلًا من مقاومتها.
التأثير على قطاع غزة كارثي ليس فقط في الجانب الإنساني المباشر من حيث الدمار وفقدان الأرواح، بل في تحطيم الروح الجماعية لشعب محاصر، يواجه تطهيرًا ممنهجًا على أنقاض المدن والمخيمات والمستشفيات. فمع استمرار الحصار والقصف والتدمير، تتآكل مقومات الحياة الطبيعية، ويتم دفع الفلسطينيين إما للنزوح أو للعيش تحت شروط قاسية من البؤس والعجز، مما يخدم الهدف الأبعد للمشروع الإسرائيلي: تفريغ غزة، وإعادة إنتاج نكبة جديدة بهدوء وصمت دولي.
تطهير عرقي
الدعاية المضادة كان لها دور أساسي في هذا المسار، إذ ترافقت المجازر مع محاولات محمومة لتبرير الجرائم عبر اتهام الضحايا أنفسهم، وشيطنة المقاومة الفلسطينية، وإقناع العالم بأن ما يحدث هو نتيجة “حرب معقدة”، وليست حملة تطهير عرقي ممنهجة. ومع انتقال اهتمام الإعلام العالمي إلى ساحات توتر جديدة، مثل المواجهة الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة، تراجعت غزة في سلم الأولويات، مما عمّق الإحساس العالمي بأن معاناة أهل القطاع أصبحت مسألة “عادية”.
الوضع الحالي في غزة هو نتيجة مباشرة لهذا التطبيع، وهو ليس قدرًا حتميًا بل نتيجة سياسة مقصودة لترويض العالم على تقبل الإجرام الإسرائيلي كواقع. هذا الواقع لا يدمر فقط ما تبقى من غزة، بل يهدد فكرة العدالة الدولية ذاتها، ويكرّس شريعة الغاب حيث الأقوى يفرض روايته بالقوة والتكرار.