في خطوة قد تكون الأخطر والأكثر إثارة للجدل منذ تأسيسها، أبدت حركة حماس استعدادها لسحب مقاتليها من الميدان بمجرد التوصل إلى وقف إطلاق نار، مقابل ضمانات بعدم ملاحقتهم، إلى جانب موافقتها على الابتعاد الكامل عن إدارة قطاع غزة. هذا التحول الذي ظهر خلال النقاشات الجارية في العاصمة المصرية القاهرة، أعاد خلط الأوراق الفلسطينية، وطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل القطاع، ومعه مستقبل القضية الفلسطينية برمتها.
التعهد الذي قدمته حماس يشكل انقلابًا على خطابها التقليدي الذي طالما ربط بقاء السلاح بوجود الاحتلال. لطالما اعتبرت الحركة أن السلاح يمثل هوية المقاومة، وعنوانها، ورافعة لقضية لم تجد في مفاوضات السلام إلا طريقًا مسدودًا. غير أن الواقع الميداني بعد سلسلة حروب مدمرة وحصار خانق، أظهر أن الكلفة الإنسانية والسياسية لم تعد تحتمل المزيد من الجمود. الضغوط الإقليمية والدولية، التي تزايدت بعد دخول الولايات المتحدة بثقلها في جهود التهدئة، فرضت معادلة جديدة، تقوم على أن لا إعادة إعمار لغزة ولا أفق سياسي دون إنهاء ظاهرة السلاح خارج إطار الدولة.
الولايات المتحدة، من جهتها، أوضحت للوسطاء أنها لا ترى أي فرصة لتحقيق استقرار دائم دون نزع السلاح بشكل كامل، وهي رؤية تتناغم مع الموقف الإسرائيلي التقليدي. وفي هذا السياق، يلوح في الأفق احتمال إنشاء منظومة أمنية جديدة تحت إشراف عربي أو دولي، تكون مسؤولة عن إدارة القطاع ومنع أي عودة للمظاهر المسلحة، ما يعني ضمنيًا تفكيك البنية العسكرية للفصائل التي تشكلت على مدار العقود الماضية.
ومع أن قبول حماس بهذه المبادئ يفتح نافذة أمل، إلا أن الخروج من عنق الزجاجة لا يزال مشروطًا بجملة من العوامل المعقدة. من دون توافق وطني فلسطيني واسع يشمل كل الفصائل والقوى، قد يتحول أي اتفاق إلى مجرد هدنة مؤقتة سرعان ما تنهار عند أول اختبار. كما أن مصير الفصائل الأخرى، وعلى رأسها الجهاد الإسلامي، يطرح تحديًا حقيقيًا، خاصة وأن هذه التنظيمات لا تزال تحتفظ بقدرات عسكرية ملموسة، ولا تبدو مستعدة للسير بنفس النهج التنازلي الذي بدأت به حماس.
الشارع الغزي بدوره يعيش حالة من الانقسام الوجداني. فبينما يتطلع كثيرون إلى حياة طبيعية بعيدة عن شبح الدمار الدائم، لا يزال آخرون يرون في السلاح ضرورة وجودية في ظل غياب أي ضمانات حقيقية بتحقيق الحقوق الوطنية عبر المسارات الدبلوماسية. هذا الانقسام يزيد المشهد تعقيدًا، ويضع القيادة الفلسطينية أمام اختبار صعب في كيفية إدارة الانتقال إلى مرحلة ما بعد السلاح دون خسارة القاعدة الشعبية أو فتح الباب أمام الفوضى والانقسامات الداخلية.
من جهة أخرى، فإن أي عملية نزع للسلاح يجب أن ترافقها حزمة مغرية من مشاريع إعادة الإعمار وتحسين الظروف المعيشية، وهو أمر مرهون بالتزامات دولية لم تتبلور حتى الآن بشكل واضح. فالتجارب السابقة علمت الفلسطينيين أن الوعود قد تبقى حبرًا على ورق، إذا لم تتوافر الإرادة السياسية والرغبة الحقيقية لدى القوى الكبرى في دعم مسار الاستقرار بدلاً من الاكتفاء بإدارة الأزمات.
ورغم الأهمية الرمزية والسياسية الكبيرة لخطوة حماس، إلا أن السؤال الجوهري يبقى معلقًا: هل نحن بصدد لحظة تحول استراتيجي ستؤسس لسلام دائم في غزة، أم أننا نشهد مجرد استجابة تكتيكية لضغوط مؤقتة سرعان ما ستتبدد مع تغير المعطيات الإقليمية والدولية؟ الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى وقت، لكنه بلا شك سيعتمد على مدى قدرة الفلسطينيين على توحيد صفوفهم، وعلى مدى جدية المجتمع الدولي في دعم هذا التحول بدل تركه رهينة للتجاذبات والمصالح الضيقة.
وفي الخلاصة، يمكن القول إن غزة تقف اليوم على عتبة مفترق طرق مصيري. فمن جهة، هناك فرصة تاريخية للخروج من دائرة الدم والحصار والفقر، ومن جهة أخرى، تتهدد هذه الفرصة مخاطر الانقسام والفراغ الأمني وعدم جدية الالتزامات الدولية. بين الحلم والهاوية، تتأرجح غزة مرة أخرى، وهذه المرة، ربما أكثر من أي وقت مضى، أصبح القرار بأيدي أبنائها وحلفائهم، لا بأيدي أعدائهم.