يمثل رفض إسرائيل للمقترح المقدم لوقف إطلاق النار لمدة خمس سنوات، والذي يشمل إطلاق سراح جميع الأسرى من الجانبين وانسحاب الاحتلال الكامل من غزة، دلالة واضحة على طبيعة الأهداف الإسرائيلية الحقيقية في القطاع، وعلى التوجهات المستقبلية للصراع الدائر. ورغم أن المقترح حمل عناصر غير مسبوقة، من بينها استعداد حماس لتسليم إدارة القطاع لكيان فلسطيني توافقي، إلا أن إسرائيل تعاملت مع المبادرة بالرفض القاطع، مُفضلة مواصلة العمليات العسكرية على إنهاء الحرب بشكل منظم.
هذا الرفض يكشف عن عدة أبعاد استراتيجية. أولها أن إسرائيل لا تسعى حاليًا إلى تهدئة طويلة الأمد، بل تسعى إلى فرض واقع ميداني جديد في غزة، يضمن لها السيطرة المباشرة أو غير المباشرة على القطاع. من منظور إسرائيل، فإن القبول بهدنة طويلة، حتى وإن تضمن إنهاء حرب وإعادة الأسرى، يحمل مخاطرة إستراتيجية؛ حيث تخشى تل أبيب أن تتمكن قوى المقاومة الفلسطينية، خلال فترة الهدنة، من إعادة بناء قوتها العسكرية وتحصين قدراتها الدفاعية، مما يجعل أي صراع مستقبلي أكثر كلفة وأشد تعقيدًا بالنسبة لإسرائيل.
تصاعد نفوذ اليمين المتطرف
كما أن التلويح بإعادة إدارة غزة لكيان فلسطيني، سواء كان السلطة الفلسطينية أو هيئة جديدة، لا يلقى قبولاً كاملاً لدى الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي تعيش تحت ضغط سياسي داخلي يرفض تقديم أي تنازل يُفسر كـ”انتصار لحماس”. بل إن التيار السياسي المهيمن في إسرائيل اليوم، خاصة مع تصاعد نفوذ اليمين المتطرف، يدفع نحو مزيد من الحسم العسكري، وربما نحو مشروع أشمل يهدف إلى إعادة صياغة الوضع الجغرافي والديمغرافي في القطاع.
بالتالي، يبدو أن إسرائيل، برفضها المقترح، تبعث برسالة مزدوجة: أولاً أنها غير مستعدة للاعتراف بأي صيغة تضمن بقاء حماس أو أي كيان مقاوم في غزة، حتى ولو لم يكن طرفًا حاكمًا مباشراً. وثانيًا، أن نيتها الحقيقية تتجه نحو السيطرة على غزة بشكل كلي أو تقسيمها إلى مناطق أمنية تحت إشراف إسرائيلي غير مباشر، أو تسويق سيناريوهات أكثر تطرفًا مثل تهجير جزء من السكان أو إقامة مناطق عازلة واسعة على حساب أراضي القطاع.
صناع القرار في تل أبيب
الرفض الإسرائيلي أيضًا يعكس قناعة عميقة لدى صناع القرار في تل أبيب أن الحلول الدبلوماسية الحالية لا تخدم الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى، التي قد تشمل إنهاء فكرة المقاومة المسلحة من جذورها، وفرض “أمن طويل الأمد” عبر سياسة القوة الغاشمة بدلاً من الحلول السياسية القائمة على التفاوض والشراكة.
يبدو أن غزة مقبلة على مرحلة أكثر سوداوية، عنوانها استمرار العدوان ومحاولات فرض وقائع جديدة بالقوة، وسط عجز دولي عن وقف التصعيد، ومراهنة إسرائيل على تآكل الموقف الإقليمي والدولي المساند للفلسطينيين مع مرور الوقت. وبينما يتمسك الفلسطينيون بحقهم في المقاومة والصمود، يبدو أن الاحتلال يخطط لمستقبل غزة بما يخدم مصالحه الأمنية فقط، دون أي اعتبار لحياة أكثر من مليوني إنسان.