تشهد مدينة رفح جنوب قطاع غزة حملة تدمير غير مسبوقة، حيث يعمل جيش الاحتلال الإسرائيلي على تسوية ما تبقى من المدينة بالأرض، في مشهد يعكس استراتيجية عسكرية تتجاوز حدود العمليات القتالية التقليدية، وتدل على نوايا بعيدة المدى تهدف إلى إعادة رسم الخارطة الديمغرافية والسياسية للقطاع.
أسباب الهدم الكثيف الذي تقوم به إسرائيل في رفح متعددة. أول هذه الأسباب هو السعي للقضاء على ما تبقى من قدرات المقاومة الفلسطينية عبر تدمير البيئة العمرانية التي قد تُستغل في الأنفاق أو في إخفاء المقاتلين. وترى إسرائيل أن بقاء مبانٍ مدمرة أو مهجورة يشكل تهديدًا أمنيًا مستقبليًا، مما يدفعها إلى إزالة الأحياء بشكل كامل بدلاً من الاقتصار على الضربات الانتقائية.
فرض وقائع ميدانية
ثانيًا، يرتبط هذا التدمير بخطة أوسع لفرض وقائع ميدانية جديدة. إسرائيل تسعى إلى تفريغ المناطق الحدودية تمامًا، خصوصًا قرب معبر رفح، بهدف إنشاء ما تسميه “مناطق عازلة” تحيط بكامل حدود القطاع، مما يقلل احتمالية تسلل المقاتلين أو تهريب السلاح مستقبلاً. وهدم رفح بالكامل يجعل من السهل لاحقًا إعادة هندسة المنطقة بما يتوافق مع الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية.
أما فيما يخص الإعلان الإسرائيلي عن نيتها إنشاء “منطقة إنسانية” في رفح، فإن هذه المزاعم تحمل دلالات خطيرة للغاية. فهي، من ناحية أولى، تمثل محاولة لمنح الطابع الإنساني لعملية تهجير قسري واسعة النطاق، تُجبر السكان على الانتقال إلى معسكرات نزوح مكتظة تحت ظروف قاسية ومعزولة عن بقية القطاع. ومن ناحية ثانية، تهدف إسرائيل من خلال هذا الإجراء إلى تبرير ممارساتها أمام المجتمع الدولي، عبر الإيحاء بأنها توفر الحماية للمدنيين، في حين أن الواقع يشير إلى خلق بيئة معيشية خانقة قد ترقى إلى مستوى العقوبات الجماعية.
سياسة هدم رفح
تكمن الخطورة الأكبر في أن إقامة مثل هذه “المنطقة الإنسانية” ستكون فعليًا بمثابة معسكر احتجاز ضخم، يخضع لسيطرة عسكرية وأمنية مشددة، ويُفصل سكانه عن بقية أراضيهم، مما يجهض أي مشروع وطني فلسطيني مستقبلي لاستعادة وحدة القطاع. إضافة إلى ذلك، فإن تسليم إدارة المساعدات الإنسانية إلى شركات خاصة، كما ورد في التقارير الإسرائيلية، يفتح الباب أمام خصخصة الاحتلال نفسه، ويعفي الحكومة الإسرائيلية من المسؤولية المباشرة عن تدهور الأوضاع الإنسانية.
وبينما تواصل إسرائيل تبرير سياساتها الأمنية عبر الادعاء بأن المواد الغذائية والطبية قد تُستغل من قبل حماس، يعيش سكان غزة كارثة إنسانية غير مسبوقة. فقد أدى الحصار الكامل المفروض منذ قرابة شهرين إلى وصول مستويات الجوع والمرض إلى مستويات كارثية، وفقًا لوكالات الأمم المتحدة، ما يهدد بانفجار صحي واجتماعي في حال استمرار الوضع.
في ظل هذا المشهد، يبدو أن إسرائيل تسعى إلى فرض استسلام جماعي عبر تحطيم إرادة السكان وليس فقط تدمير البنية العسكرية للمقاومة. وعليه، فإن سياسة هدم رفح وإنشاء “مناطق إنسانية” ليست سوى أدوات في مخطط أشمل لإعادة تشكيل غزة بما يتناسب مع الرؤية الإسرائيلية للأمن، ولو على حساب حياة وكرامة أكثر من مليوني إنسان محاصرين.