في خضم تصاعد التوترات الاقتصادية والجيوسياسية مع الولايات المتحدة، أعلنت الصين خلال الربع الأول من عام 2025 عن إطلاق مبادرة استراتيجية جديدة تحت مسمى “مسار الجنوب الشرقي”، في إطار ما أصبح يُعرف إعلاميًا باسم “الحزام الاقتصادي الشرقي”. تأتي هذه المبادرة في لحظة حرجة تشهد تصاعد العقوبات الأمريكية ضد الشركات الصينية، وتعثر العديد من مشاريع مبادرة “الحزام والطريق” التقليدية بسبب الضغوط الغربية والأزمات الإقليمية. وبينما يصفها بعض المحللين بأنها مجرد إعادة تدوير لمشاريع قديمة، يرى آخرون فيها نقلة نوعية في التفكير الاستراتيجي الصيني، تهدف إلى إعادة تشكيل خارطة النفوذ الاقتصادي خارج دائرة الاستهداف الغربي المباشر.
خلفيات إطلاق المبادرة
على مدى العقد الماضي، سعت الصين عبر مبادرة “الحزام والطريق” إلى إعادة إحياء طرق التجارة البرية والبحرية القديمة، من آسيا إلى أوروبا وأفريقيا. إلا أن هذا الطموح الكبير اصطدم بسلسلة من العراقيل، بدءًا من الضغوط الأمريكية والغربية التي اتخذت شكل عقوبات ومراجعات أمنية للمشاريع، وصولًا إلى تصاعد النزاعات الإقليمية في بعض الدول المستهدفة بالمبادرة، مما أدى إلى تباطؤ تنفيذ العديد من مشاريع البنى التحتية العملاقة.
في هذا السياق، جاء التفكير الصيني في صياغة مسار اقتصادي أكثر مرونة وأقل عرضة للمخاطر الجيوسياسية. كان الدافع الأساسي هو الحاجة إلى ضمان قنوات تصدير واستيراد مستقلة نسبيًا عن نقاط الاحتكاك التقليدية مع واشنطن، إلى جانب تأمين عمق استراتيجي جديد يدعم بقاء الاقتصاد الصيني في مواجهة الضغوط المتصاعدة.
معالم “مسار الجنوب الشرقي”
بخلاف مبادرة “الحزام والطريق” ذات النطاق العالمي الواسع، يتركز “مسار الجنوب الشرقي” على مجموعة مختارة من الدول الواقعة جنوب شرقي آسيا، بما في ذلك فيتنام، ماليزيا، إندونيسيا، والفلبين، مع امتدادات استراتيجية نحو شمال أستراليا. ويقوم جوهر هذا المشروع على ربط المراكز الصناعية في جنوب الصين بسلاسل توريد جديدة أكثر أمانًا واستقرارًا، عبر استثمارات ضخمة في مجالات النقل البحري، والموانئ الذكية، والمناطق الحرة الصناعية، والطاقة المتجددة.
تتميز المبادرة الجديدة بأنها تعتمد على “نماذج احتواء المخاطر”، حيث يتم تقسيم المشاريع إلى وحدات صغيرة قابلة للفصل، مما يحد من المخاطر المالية والسياسية المرتبطة بكل مشروع على حدة. كما تتضمن شروط تمويل مرنة، مقارنة بالنهج الأكثر صرامة الذي اتبعته بكين سابقًا، مما يجعلها أكثر جاذبية لدول الجنوب الشرقي الباحثة عن الاستثمارات دون الوقوع في مصيدة الديون.
الأبعاد الاستراتيجية للمبادرة
يتجاوز “الحزام الاقتصادي الشرقي” الأهداف الاقتصادية البحتة إلى أهداف جيوسياسية أوسع. فمن خلال ترسيخ وجودها في دول الجنوب الشرقي الآسيوي، تسعى الصين إلى تطويق النفوذ الأمريكي التقليدي في هذه المنطقة الحيوية، وتحدي التحالفات الأمنية التي تقودها واشنطن، مثل “أوكوس” بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا.
علاوة على ذلك، تراهن بكين على أن تعزيز الروابط الاقتصادية مع هذه الدول سيؤدي تدريجيًا إلى تحول مواقفها السياسية لصالح المصالح الصينية في المحافل الدولية، خصوصًا فيما يتعلق بالقضايا الخلافية مثل ملف تايوان، وحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، والعقوبات التجارية المفروضة على بكين.
تحديات أمام نجاح المشروع
رغم الطموحات الكبيرة التي ترافق إعلان “مسار الجنوب الشرقي”، إلا أن نجاحه يواجه جملة من التحديات البنيوية. أولى هذه التحديات تتمثل في استمرار الحذر الإقليمي من نوايا الصين التوسعية، لا سيما في دول عانت سابقًا من تجارب اقتصادية مريرة مع استثمارات أجنبية غير متوازنة.
كما أن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء محاولة الصين اختراق ما تعتبره مجالها الحيوي، إذ بدأت بالفعل في تعزيز وجودها العسكري والاقتصادي في المنطقة، إلى جانب إطلاق مبادرات تمويلية مضادة مثل “الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية” التي تسعى إلى تقديم بدائل استثمارية للدول النامية.
يضاف إلى ذلك أن بعض الدول المشاركة المحتملة في المبادرة، مثل الفلبين وفيتنام، تحتفظ بعلاقات أمنية وثيقة مع واشنطن، مما قد يحد من انخراطها الكامل في المشاريع الصينية أو يجعلها ساحة تنافسية مفتوحة بين القوتين العظميين.
آفاق مستقبلية
على الرغم من التحديات، فإن مرونة المبادرة الصينية الجديدة واعتمادها على مبدأ “التدرج والانتقائية” قد يمنحها فرصًا حقيقية للنجاح، لا سيما إذا استطاعت بكين أن تقدم نفسها كشريك اقتصادي موثوق وغير مشروط سياسيًا. سيكون مدى التزام الصين بتقديم شروط تمويلية شفافة وعادلة عاملاً حاسمًا في كسب ثقة دول الجنوب الشرقي، وهي الثقة التي ستكون ضرورية لإنشاء نظام إقليمي اقتصادي بديل نسبيًا عن الهيمنة الأمريكية.
في المدى المتوسط، من المتوقع أن نشهد تصاعدًا في الصراع الاقتصادي الصيني-الأمريكي داخل هذه المنطقة، حيث ستتنافس المبادرات الصينية والغربية على كسب قلوب وعقول الدول الآسيوية النامية. وفي المدى البعيد، قد يشكل نجاح “الحزام الاقتصادي الشرقي” نقطة تحول استراتيجية تسمح للصين بكسر الطوق الاقتصادي الغربي المفروض عليها، وتثبيت نفسها كقوة عظمى لا يمكن تطويقها بسهولة عبر العقوبات أو سياسات العزل الاقتصادي.
تعزيز الحضور
يمثل “مسار الجنوب الشرقي” أكثر من مجرد مبادرة اقتصادية جديدة؛ إنه تعبير عن تحولات عميقة في التفكير الاستراتيجي الصيني، ونقطة اختبار لقدرة بكين على المناورة وسط بيئة دولية معادية ومتقلبة. وفي ظل احتدام المواجهة مع الولايات المتحدة، ستبقى هذه المبادرة تحت أعين العالم بأسره، باعتبارها واحدة من أهم أدوات الصين لتأكيد حضورها العالمي وإعادة صياغة موازين القوى الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين.