لم تتوقف آلة الحرب الإسرائيلية عن استهداف مدينة جنين ومخيمها منذ أكثر من مئة يوم، حيث يتواصل العدوان للّيوم الـ102 على التوالي، وسط صمت دولي وتراخٍ أممي في مواجهة ما بات يُوصف بواحدة من أشد العمليات العسكرية تدميرًا في الضفة الغربية منذ سنوات. ومع كل يوم يمر، تتسع رقعة الدمار وتتعمق الجراح، بينما يتكشف هدف الاحتلال تدريجيًا: تغيير معالم المخيم وتفكيك بنيته، في محاولة واضحة لإعادة هندسته الجغرافية والديموغرافية، في تحدٍّ سافر للقانون الدولي الإنساني.
المخيم، الذي لطالما شكّل رمزًا للمقاومة الفلسطينية، بات اليوم شبه خاوٍ من سكانه، حيث أجبر آلاف العائلات على مغادرته قسرًا بفعل القصف والتجريف وغياب أبسط مقومات الحياة. وتشير بيانات بلدية جنين إلى أن عدد النازحين تجاوز 22 ألفًا، من سكان المخيم ومحيط المدينة، وسط عجز المنظمات الإنسانية عن الوصول إلى المناطق المتضررة لتقديم الإغاثة أو حتى تقييم حجم الكارثة.
ورغم أن العدوان يستهدف المخيم بشكل رئيسي، إلا أن الضرر لم يتوقف عند حدوده، بل امتد ليطال مدينة جنين بأكملها. في أحياء مثل “الهدف” و”الحي الشرقي”، سُجلت أضرار واسعة في المنازل والبنية التحتية، من شبكات المياه والصرف إلى الطرقات الرئيسية، ما جعل المدينة في حالة شلل شبه تام. المشهد في هذه الأحياء أقرب إلى منطقة منكوبة: بقايا منازل، أسلاك كهربائية مقطعة، حفر ضخمة في الشوارع، ومحال تجارية مغلقة تغطيها آثار الغبار والانفجارات.
الواقع الاقتصادي هو الآخر دخل في مرحلة الانهيار، إذ أدت العمليات العسكرية المتواصلة إلى شلل الحركة التجارية. المحال التجارية في الأحياء الغربية تحديدًا باتت عاجزة عن فتح أبوابها، لا بسبب الخوف فقط، بل أيضًا نتيجة الأضرار المباشرة التي لحقت بها، سواء من القصف أو من عمليات التجريف التي تستهدف حتى الشوارع المؤدية إليها. وتراجع عدد المتسوقين والزوار من خارج المدينة إلى مستويات غير مسبوقة، ما فاقم من خسائر التجار وأدخل السوق المحلي في دائرة الانكماش الحاد.
الوجود العسكري الإسرائيلي بات مشهدًا دائمًا في المدينة ومحيطها. تعزيزات إضافية تصل بشكل منتظم إلى محيط المخيم، تتبعها تحركات يومية لفرق مشاة في مختلف أحياء المدينة. في الوقت ذاته، تشهد قرى المحافظة تحركات عسكرية متكررة، ودوريات إسرائيلية لا تكاد تغيب عن الطرقات، ما يجعل الحياة اليومية للفلسطينيين في جنين مشوبة بالتوتر والخوف والانقطاع.
العدوان المتواصل على جنين لا يمكن النظر إليه بمعزل عن السياق الأوسع للسياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية، والتي تسعى إلى تقويض مراكز المقاومة المسلحة، لكن ما يحدث في المخيم يتجاوز منطق “الأمن” إلى سياسة الأرض المحروقة، حيث يبدو أن الهدف النهائي يتخطى المواجهة العسكرية ليصل إلى إعادة رسم الخريطة السكانية والمعمارية للمنطقة.
أمام كل هذا الدمار والتشريد، تبقى الاستجابة الدولية خجولة ومحدودة التأثير. ومع غياب مساءلة حقيقية لسياسات الاحتلال، يبدو أن جنين تعيش فصولًا مفتوحة من المعاناة، في وقت لا يزال فيه المجتمع الدولي يكتفي ببيانات “القلق” بينما تمضي إسرائيل قدمًا في إعادة تشكيل الواقع الفلسطيني بقوة السلاح والجرافة.