في تحول لافت قد يُعيد بعضاً من الثقة إلى المؤسسات، أقرّ مجلس الوزراء اللبناني، برئاسة نواف سلام، مشروع قانون استقلالية القضاء، في جلسة عُقدت في السراي الحكومي، وسط ترحيب من الأوساط الحقوقية والدبلوماسية التي طالما اعتبرت إصلاح السلطة القضائية مدخلاً إلزامياً لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي حقيقي في البلاد.
رئيس الحكومة نواف سلام، المعروف بدعواته المتكررة لاستقلال القضاء منذ تسلمه المنصب، أعلن أن مشروع القانون يأتي لتعزيز حيادية القاضي وتحصينه ضد الضغوط السياسية والمالية والدينية. ولفت إلى أن هذا القانون يبعث الطمأنينة في نفوس المواطنين، مؤكداً أن “المتقاضين، بلجوئهم إلى القضاء، سوف ينالون أحكاماً بعيدة عن أي تأثيرات”، ومشيراً إلى أن المشروع الجديد يسهم في “إعادة التوازن المفقود بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة، والسلطة القضائية من جهة أخرى”.
إصلاح طال انتظاره… ولكن بشروط
مشروع استقلال القضاء الذي أُقرّ، وإن كان يشكّل خطوة إيجابية، إلا أنه لا يزال بحاجة لمصادقة البرلمان، حيث يُتوقّع أن تواجهه مقاومة من كتل نيابية ترى في قضاءٍ مستقل تهديداً لنفوذها التقليدي في مفاصل الدولة. وتأتي هذه الخطوة تماشياً مع المطالب المتكررة لصندوق النقد الدولي، الذي اشترط إصلاح القضاء إلى جانب ضبط الإنفاق المصرفي وتوحيد سعر الصرف كإجراءات أساسية لأي حزمة إنقاذ مالي للبنان.
منظمات حقوقية لبنانية ودولية طالما نادت بتعديل بنية مجلس القضاء الأعلى وتحجيم سلطة السياسيين في التعيينات القضائية. ويتضمن المشروع الجديد بحسب مصادر مطلعة، بنوداً تضمن مشاركة الجسم القضائي بنسبة أكبر في التعيينات، كما تنص على عدم إمكانية نقل القضاة إلا بقرار قضائي مبرر.
في المقابل: هاجس الأمن والسيادة
وفي نفس الجلسة، لم تغب الملفات الأمنية عن طاولة البحث، حيث وافق المجلس على توصية المجلس الأعلى للدفاع بتحذير حركة “حماس” من استخدام الأراضي اللبنانية للقيام بأي عمليات قد تمسّ بالأمن القومي اللبناني، تحت طائلة “اتخاذ أقصى التدابير والإجراءات لوضع حدّ نهائي لأي عمل ينتهك السيادة اللبنانية”.
يأتي هذا الموقف في أعقاب إطلاق عدة صواريخ من جنوب لبنان باتجاه شمال فلسطين المحتلة، في عمليات نُسبت إلى فصائل فلسطينية ردّاً على الحرب الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة. وقد أثارت هذه الحوادث قلقاً دولياً من انزلاق لبنان إلى ساحة مواجهة إقليمية مفتوحة، خاصة في ظل هشاشة الوضع الاقتصادي وغياب الغطاء السياسي الداخلي الموحد.
وبحسب معلومات مسربة، فإن الجيش اللبناني كثف من دورياته في المناطق الحدودية، كما جرى تفعيل التنسيق مع قوات “اليونيفيل”، وسط تأكيد على ضرورة التزام القرار الدولي 1701 القاضي بوقف الأعمال العدائية على طول الخط الأزرق.
استعدادات الانتخابات البلدية: استحقاق تحت المجهر
وفي خطوة أخرى لافتة، وافق المجلس على الإجراءات الإدارية والمالية المطلوبة لإجراء الانتخابات البلدية والاختيارية التي ستنطلق الأحد المقبل في محافظة جبل لبنان، بعد سلسلة تأجيلات وتمديدات استمرت منذ عام 2016. ويُنتظر أن تكون هذه الانتخابات اختباراً مهماً لمزاج الناخب اللبناني، خاصة في ظل الفراغ الرئاسي وتراجع ثقة الشارع بالأحزاب التقليدية.
مصادر داخل وزارة الداخلية أفادت بأن التحضيرات اللوجستية جارية على قدم وساق، رغم التحديات التمويلية التي كادت أن تُطيح بالاستحقاق مجدداً. كما أكدت مصادر أمنية أن القوى الأمنية وضعت خططاً متكاملة لضمان سير العملية الانتخابية بسلاسة.
تقاطع الملفات في لحظة مصيرية
التقاطع بين هذه الملفات الثلاثة – إصلاح القضاء، حماية السيادة، وإجراء الانتخابات – يُظهر مسعى الحكومة نحو ترتيب الأولويات الوطنية وفق ضرورات المرحلة: تعزيز الدولة كمرجعية وحيدة، تقوية ثقة المواطن بالمؤسسات، وضمان ألا تكون البلاد ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية.
لكن الواقع السياسي المأزوم والتداخل الطائفي في مفاصل السلطة قد يعيدان عقارب الساعة إلى الوراء، ما لم تتحوّل هذه القرارات إلى مسارات تنفيذية واضحة، مدعومة بغطاء شعبي وقضائي ودولي، لا سيما في ظل مراقبة المجتمع الدولي الحثيثة لكل خطوة إصلاحية تتخذها بيروت.