في ظل أزمة اقتصادية خانقة تشهدها تونس منذ سنوات، أعلنت الحكومة التونسية عن إطلاق منظومة جديدة للدعم الاجتماعي تهدف إلى تحقيق نوع من التوازن بين متطلبات الحماية الاجتماعية واستحقاقات الإصلاحات المالية التي باتت تفرضها الوقائع المحلية والدولية. الخطوة، التي جاءت على لسان وزير الشؤون الاجتماعية عصام الأحمر، تمثل تحولاً مهمًا في فلسفة توزيع الدعم، إذ تقوم على مقاربة مزدوجة تفصل بين الفئات القادرة على المساهمة وتلك التي تقع في دائرة الهشاشة الاجتماعية.
وبحسب الوزير، تنقسم المنظومة إلى شقين أساسيين: الأول يعتمد مبدأ الاشتراك في البرنامج مقابل الحصول على خدمات اجتماعية محددة، بينما يستهدف الشق الثاني الفئات العاطلة عن العمل ومحدودي الدخل دون أي التزام مالي من جانبهم. وتقدَّم في هذا السياق مساعدات نقدية شهرية منتظمة، إضافة إلى معونات عينية خلال المناسبات، وتوفير العلاج المجاني في جميع المستشفيات الحكومية للمستفيدين وأفراد أسرهم.
هذه الآلية، وإن بدت تقنية في ظاهرها، فإنها تعكس محاولة حكومية لاستعادة دور الدولة في حماية الفئات الأكثر هشاشة، بعد سنوات من سياسات تقشفية شديدة، ورغبة في إعادة صياغة العقد الاجتماعي المتهالك، لا سيما في أعقاب تداعيات جائحة كورونا وأزمة الغذاء والطاقة العالمية، التي أرخت بظلالها على كل بيت تونسي.
التحول في إدارة الدعم الاجتماعي يأتي أيضًا في وقت حرج تعاني فيه تونس من ضغوط اقتصادية حادة في عام 2025. فقد استمر الدين العام في الارتفاع ليبلغ مستويات تقارب 90% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما ارتفع عجز الميزانية بشكل مطّرد، وسط صعوبات جدية في تمويل الواردات الحيوية من الغذاء والطاقة. وتعيش الحكومة حالة من الترقب والتوجس نتيجة فشل جولات التفاوض السابقة مع صندوق النقد الدولي، ما دفعها إلى البحث عن حلول داخلية أكثر مرونة، بعضها يرتكز على إعادة هيكلة الدعم بما لا يثير غضب الشارع الذي أنهكته موجات التضخم المتتالية.
ولا ينفصل هذا التوجّه الجديد في الدعم عن واقع البطالة المتفاقم، خاصة بين الشباب وحاملي الشهادات الجامعية، وهي فئة تمثل كتلة اجتماعية حرجة لا يمكن تجاهلها في أي عملية إصلاح. ففي الوقت الذي أعلنت فيه الدولة عن خطط لتشجيع المبادرات الفردية والاقتصاد التضامني، ما زالت معظم المبادرات الحكومية تتسم بالطابع الظرفي والموسمي، من دون أن تندرج في إطار سياسة شاملة للتشغيل والتنمية الجهوية المتوازنة.
وتأتي هذه الإجراءات الاجتماعية كذلك على خلفية تراجع ثقة المواطنين بالمؤسسات الرسمية، لا سيما في ظل ضعف الشفافية وغياب الرقابة المجتمعية على طرق توزيع الدعم أو آليات تحديد المستحقين. وهنا يطرح العديد من المراقبين تساؤلات حول مدى قدرة الدولة على تطبيق هذه المنظومة بمعايير عادلة، خاصة في ظل تفشي البيروقراطية والمحسوبية في أجهزة الإدارة المحلية.
من جانب آخر، تشير بعض التقارير الاقتصادية إلى أن الحكومة التونسية باتت مجبرة على تغيير خطابها الاقتصادي والاجتماعي، من أجل امتصاص حالة الغضب الشعبي المتنامي، خصوصًا بعد قرارات رفع الأسعار المتكررة في المواد الأساسية والمحروقات، ورفع الدعم التدريجي الذي بدأ منذ عام 2022. فالمعادلة تبدو دقيقة وشبه مستحيلة: الإصلاح المالي دون انفجار اجتماعي، وإرضاء المانحين الدوليين دون خسارة ما تبقى من شرعية داخلية.
وفي هذا السياق، تُفهم تصريحات الوزير عصام الأحمر من الرياض، حيث أشار من على هامش المؤتمر الدولي للصحة والسلامة المهنية، إلى أن الدولة “ملتزمة بمرافقة الفئات الهشة وتوفير مقومات الكرامة الإنسانية لهم”. إلا أن هذا الالتزام، على أهميته، يصطدم بإكراهات الواقع وندرة الموارد، ما يجعل من أي برنامج اجتماعي جديد تحديًا حقيقيًا، يستلزم إرادة سياسية قوية وهيكلًا إداريًا شفافًا ومتطورًا.
ويرى خبراء في الاقتصاد الاجتماعي أن الربط بين نظام يقتضي المساهمة ونظام مجاني موجه للعاطلين يعكس توجها نحو استهداف الدعم بشكل مباشر، بعيدًا عن النماذج السابقة التي اتسمت بالعشوائية وأدت إلى استنزاف مالي لم تستفد منه الطبقات الفقيرة بالشكل المطلوب. لكنّ هؤلاء يحذرون في الوقت ذاته من خطر “شيطنة” الطبقات الوسطى التي قد تجد نفسها فجأة خارج مظلة الدعم، في وقت تآكلت فيه قدرتها الشرائية بشكل غير مسبوق.
في المحصلة، يمكن اعتبار هذه المنظومة الاجتماعية الجديدة في تونس خطوة على طريق طويل، تحاول من خلاله الحكومة استعادة زمام المبادرة في ملف حساس طالما شكل وقودًا للاحتجاجات الشعبية. غير أن نجاح التجربة سيظل مرهونًا بمدى التزام السلطة بالشفافية، وتوسيع دائرة المشاركة المجتمعية، وضمان ألا يكون الدعم مجرد مسكن مؤقت في دولة تحتاج إلى جراحة اقتصادية عميقة قد لا تملك رفاهية تأجيلها.