أزمة نقص الوقود في قطاع غزة لم تعد أزمة قطاعية أو لوجستية، بل تحولت إلى مأساة شاملة تمسّ كل تفاصيل الحياة اليومية، وتمثل وجهاً آخر من وجوه الحرب المفروضة على القطاع، بعيداً عن مشهد القصف والدمار الظاهر. في ظل الحصار الإسرائيلي المحكم منذ أوائل مارس، أصبحت المنشآت الأساسية – من مستشفيات ومراكز إيواء وحتى فرق الإنقاذ والدفاع المدني – عاجزة عن أداء مهامها، مما عمّق الانهيار الكامل للبنية التحتية المدنية.
كارثة بيئية
تعطل 75% من مركبات الدفاع المدني بسبب نفاد الوقود ليس رقماً عابراً، بل هو مؤشر على عجز خطير في قدرة المؤسسات على الاستجابة للطوارئ، سواء في إخماد الحرائق الناتجة عن القصف أو في إنقاذ العالقين تحت الركام. ومع غياب الكهرباء والانقطاع المتواصل للتيار، أصبحت المولدات الكهربائية وسيلة النجاة الوحيدة لتشغيل المستشفيات ومضخات المياه، وهذه أيضاً باتت خارج الخدمة تدريجياً بسبب شح الوقود. النتيجة: غرف العمليات تغلق، الحضانات تتوقف، وأجهزة الأكسجين تُطفأ، ما يعني أن كثيراً من المرضى لا يموتون بسبب القنابل بل بسبب الاختناق أو الإهمال القسري.
أزمة الوقود انعكست أيضاً على عمل محطات الصرف الصحي التي توقفت عن معالجة المياه، مما ينذر بكارثة بيئية وصحية مع انتشار الأمراض المعدية، خاصة في مناطق النزوح المكتظة. كما توقفت شاحنات جمع النفايات عن العمل، وتحولت الشوارع إلى مكبات مفتوحة، مما زاد من معاناة السكان، وأدى إلى انتشار الحشرات والأوبئة.
تعطل معدات التشغيل
القطاع الزراعي كذلك تأثر بشدة، إذ لم يعد المزارعون قادرين على تشغيل مضخات المياه لري أراضيهم أو تشغيل معدات الحصاد، ما يهدد الأمن الغذائي المحلي حتى في حدوده الدنيا. وهذا يعني أن غزة، حتى لو دخلها بعض المساعدات، لن تكون قادرة على الاعتماد على نفسها في إنتاج أي شكل من أشكال الغذاء.
في الجانب التعليمي، تسببت أزمة الوقود بإغلاق عدد من المدارس التي كانت تعتمد على الكهرباء لتشغيل بيئة تعليمية مقبولة ولو بشكل مؤقت، لا سيما في المدارس التي تؤوي نازحين وتعمل كمراكز إغاثة. هذه المدارس فقدت القدرة على استقبال الطلبة أو توفير الحد الأدنى من التهوية والإنارة.
سياسات العقاب الجماعي
إسرائيل، من جانبها، تستمر في التأكيد على أن هناك “ما يكفي من الطعام” في غزة، متجاهلة أن المسألة لم تعد متعلقة فقط بالغذاء، بل بالبنية التي تسمح لهذا الغذاء أن يصل، أو أن يُخزن، أو حتى أن يُطهى. فعندما لا توجد وقود لتشغيل المخابز أو لتبريد الأغذية، يصبح الطعام نفسه عديم الفائدة، أو عبئاً إضافياً في بيئة لا تملك أدوات التعامل معه.
في ظل هذا الواقع، لم تعد غزة منطقة حرب فقط، بل أصبحت منطقة محرومة من مقومات البقاء. والكارثة الكبرى أن المجتمع الدولي يقف متفرجًا، فيما تعمّق إسرائيل من سياسات العقاب الجماعي دون رادع حقيقي. إن أزمة الوقود ليست مجرد جزء من الحصار، بل أحد أعمدته الأخطر، والتي تُستخدم بصمت، لكنها تقتل بصخب.