منذ تسلم دونالد ترامب مهامه رئيسًا للولايات المتحدة قبل بضعة أشهر، بدا الملف السوري وكأنه في حالة تجميد مقصودة، وسط انشغال واشنطن بإعادة ترتيب أولوياتها الخارجية وفق عقيدة ترامب السياسية، التي تميل إلى تغليب البراغماتية والصفقات على الالتزامات التقليدية للدبلوماسية الأميركية. إلا أن إشارات متلاحقة في الآونة الأخيرة كشفت عن تحرك أميركي متجدد تجاه الأزمة السورية، وخصوصًا بعد الإعلان عن الشروط التي وضعتها وزارة الخارجية الأميركية للانفتاح على الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس المؤقت أحمد الشرع.
وعلى الرغم من أن الرد السوري على تلك الشروط جاء سريعًا، وتُوِّج بلقاءات أجراها وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في نيويورك، فإن المخرجات لم تُفضِ إلى تحول نوعي في العلاقات بين البلدين، بل ظلت الاتصالات تدور في نطاق الاختبار المتبادل لنوايا الطرفين وحدود التنازلات الممكنة. هذه البرودة في التواصل لا تعكس بالضرورة غياب الاهتمام الأميركي، بقدر ما تعكس رغبة واشنطن في التمهل وقياس الخيارات قبل الانخراط في أي مسار تفاوضي يُعطي شرعية مبكرة لحكومة ما زالت تبحث عن تثبيت موقعها داخليًا وإقليميًا.
غير أن اتصالًا هاتفيًا أُجري في الخامس من مايو بين ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان أعاد الملف السوري إلى واجهة المشهد السياسي. ترامب أكد خلال الاتصال أنه ناقش “كل شيء عن سوريا”، في تصريح يحمل أكثر من مدلول في توقيته ومضمونه. فالرئيس الأميركي لم يُعرف عنه التوسع في الخوض في تفاصيل القضايا الدولية، ما يجعل تصريحه هذا تعبيرًا عن اهتمام غير عابر، وربما مؤشرًا على قرار بالمضي نحو مقاربة جديدة للملف السوري.
من جهته، حرص أردوغان على تظهير الموقف التركي باعتباره شريكًا أساسيًا في أية ترتيبات تتعلق بسوريا، مشيرًا إلى أن أنقرة تبذل جهودًا لحماية وحدة الأراضي السورية وتحقيق الاستقرار. كما شدد على أن أي تخفيف للعقوبات الأميركية المفروضة على سوريا سيُسهم في تسريع الحل السياسي، وهو ما يُعد تلميحًا إلى وجود تفاهمات مبدئية – أو على الأقل تقارب في الرؤى – بين أنقرة وواشنطن بشأن المرحلة الانتقالية السورية.
وتكتسب هذه المؤشرات مزيدًا من الوزن السياسي في ضوء الزيارة المرتقبة لترامب إلى الشرق الأوسط، والتي ستشمل السعودية وقطر والإمارات. فاختيار هذه المحطات الثلاث لا يبدو اعتباطيًا، بل يعكس سعيًا أميركيًا لإعادة تموضع نفوذها في الإقليم من خلال الشراكة مع القوى الخليجية التي لطالما كانت مؤثرة في الملف السوري، سواء من خلال الدعم السياسي أو التمويل أو احتضان الفصائل والمعارضة. ومن شأن هذه الزيارة أن ترسم ملامح المرحلة المقبلة من الانخراط الأميركي في سوريا، خصوصًا إذا ترافقت مع تفاهمات إقليمية حول مسألة إعادة الإعمار، وعودة اللاجئين، ومستقبل العلاقات مع حكومة الشرع.
المراقبون يرون أن تقارب ترامب مع أردوغان لا ينفصل عن هذا الإطار، بل يشكل أحد أعمدته. فواشنطن تدرك أن تركيا تمثل لاعبًا لا غنى عنه في ترتيبات ما بعد الحرب، سواء بحكم موقعها الجغرافي أو بحكم نفوذها الميداني في الشمال السوري. ومن هنا، فإن الدعم الأميركي المعلن للدور التركي، لا يُقرأ فقط في إطار المصالح الثنائية، بل كجزء من معادلة أميركية أوسع تسعى لخلق توازن إقليمي يمنع الانفراد الروسي بالمشهد السوري، دون الدخول في مواجهة مباشرة.
في المقابل، فإن استمرار واشنطن في فرض شروطها على الحكومة السورية الجديدة يضع الأخيرة أمام معادلة صعبة: إما قبول الانفتاح المشروط وما يعنيه من تنازلات سياسية واقتصادية، أو القبول بعزلة دولية قد تُعيق قدرتها على تثبيت شرعيتها، وجذب الدعم اللازم لإعادة بناء الدولة.
في الخلاصة، فإن ما يجري في الكواليس بين واشنطن وحلفائها – القدامى والجدد – بشأن سوريا، يشير إلى لحظة مفصلية في مسار الأزمة. زيارة ترامب المرتقبة، والتقارب مع أنقرة، وتبادل الرسائل مع حكومة الشرع، قد لا تؤدي إلى اختراق فوري، لكنها تفتح الباب أمام صفقة سياسية محتملة، تشكل فيها المصالح الأميركية حجر الأساس، في ظل صراع نفوذ إقليمي لم يحسم بعد.