تشير الوقائع الميدانية في غزة، وآخرها الإعلان عن إصابة 9 جنود من لواء القدس، بينهم ضابطان كبيران، في انفجار عبوة ناسفة بحي الشجاعية، إلى أن جيش الاحتلال يواجه مقاومة شرسة ومعقّدة في مناطق يُفترض أنها “ممسوكة” عسكرياً، ما يُسلط الضوء على هشاشة الوضع الأمني في عمق انتشار القوات الإسرائيلية داخل القطاع. ويُضاف إلى ذلك تقارير متزامنة تفيد باستهداف مركبة عسكرية بصاروخ مضاد للدروع، ما أدى إلى مزيد من الإصابات.
شفافية إسرائيل
في هذا السياق، تبرز تساؤلات حقيقية حول مدى شفافية إسرائيل في إعلان خسائرها البشرية. فرغم مرور شهور على بدء العمليات البرية المكثفة، لم تُقدِّم المؤسسة العسكرية الإسرائيلية حصيلة دقيقة ومحدثة بشكل منتظم للضحايا في صفوفها، خاصة في ما يتعلق بالعمليات داخل غزة، وهي سمة تكررت في حروب سابقة. يُلاحظ أن البيانات الرسمية غالباً ما تصف الإصابات بـ”الطفيفة”، دون تحديد واضح لحجم الضرر أو عدد القتلى الفعليين، ويجري التعامل مع التفاصيل عبر تسريبات أو مصادر إعلامية غير رسمية.
هذا التعتيم النسبي لا يُمكن فصله عن الحساسية السياسية والاجتماعية داخل إسرائيل، حيث بات الرأي العام في تل أبيب، لا سيما أهالي الجنود، أكثر قلقاً من كلفة الحرب البشرية والاقتصادية. إسرائيل، التي تخوض معركة على أكثر من جبهة – عسكرية وسياسية وإعلامية – تدرك أن ارتفاع عدد القتلى في صفوف جيشها قد يُحدث شرخاً كبيراً في الداخل، ويفتح الباب أمام ضغط متزايد لإنهاء العمليات، أو حتى المطالبة بتحقيقات رسمية في قرارات القيادة العسكرية.
من الواضح أن المؤسسة العسكرية، رغم استراتيجيتها القائمة على الردع والسيطرة، تجد نفسها في مأزق مستمر على الأرض، خاصة حين تواجه تكتيكات فصائل المقاومة، مثل العبوات الناسفة والكمائن وصواريخ الكورنيت الموجهة، التي لا تتطلب معدات ضخمة ولكنها تُحدث أثراً بالغاً على معنويات القوات الغازية.
الرقابة العسكرية الصارمة
تُوظف إسرائيل أحياناً أدوات إعلامية للحد من تدفق المعلومات، مثل الرقابة العسكرية الصارمة على التقارير الصحفية، أو إطلاق تصريحات مموهة عن طبيعة الإصابات، وهو ما يُعزز من فرضية أن الأرقام المعلنة قد لا تعكس الحقيقة الكاملة. ومع ذلك، فإن وسائل التواصل الاجتماعي، ومجموعات الجنود وعائلاتهم، باتت تكشف أحياناً معطيات تُحرج المؤسسة العسكرية، وتؤكد أن هناك فجوة بين الرواية الرسمية والواقع الميداني.
إذا استمر هذا النمط من التعتيم، فقد يُولّد في الداخل الإسرائيلي أزمة ثقة حقيقية بين المجتمع والقيادة العسكرية والسياسية، خاصة إذا ما تراكمت الخسائر دون نتائج استراتيجية حاسمة في غزة. وهذا ما تحاول إسرائيل تجنّبه بأي ثمن، عبر احتواء الرواية، والسيطرة على الإيقاع الإعلامي، وربما تأجيل الإعلان عن خسائر كبيرة لحين اكتمال بعض الأهداف العسكرية أو التفاوضية.