افتتاح معرض “لن نرحل.. ستبقى فلسطين للفلسطينيين” في متحف محمود درويش في هذا التوقيت المشتعل سياسيًا وإنسانيًا يحمل في طياته دلالات عميقة تتجاوز البعد الفني إلى فضاء أوسع من النضال الثقافي والتمسّك بالهوية الوطنية. في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، والتصعيد في الضفة الغربية، وما رافقه من دمار وتهجير وقتل للمدنيين، يأتي هذا المعرض كصرخة فنية بوجه آلة الحرب، وكوثيقة رمزية تقول إن الشعب الفلسطيني لن يُمحى، ولن يُقتلع من أرضه أو تاريخه.
تماسك البنية الثقافية الفلسطينية
المعرض، الذي يضم 77 لوحة فنية لفنانين فلسطينيين، يُمثّل إحياءً مختلفًا للنكبة، ليس من خلال سرد الألم فحسب، بل بتجسيد معاصر لمقاومة الوعي ومحاولة طمس الذاكرة. في لحظة يعلو فيها صوت الدمار، يقدم الفن صوتًا بديلًا؛ هادئًا، عميقًا، لكنه أكثر ثباتًا. فبينما تُهدم البيوت ويُحاصر الناس، تُرفع في المتاحف لوحات تحكي قصة الأرض والمقاومة والانتماء، لتُعيد تأكيد أن الفلسطيني لم يكن يومًا مجرد ضحية، بل هو أيضًا مُنتج للثقافة والجمال والهوية.
التعاون بين مؤسسات مختلفة، من بينها مؤسسة محمود درويش ووزارة الثقافة، والجمعية الفلسطينية للفن المعاصر، يبرز مدى تماسك البنية الثقافية الفلسطينية رغم الانقسام والدمار. إنه عمل جماعي يشير إلى أن المعركة ليست فقط على الأرض، بل على الرواية، على من يملك الحق في الحكاية. واللوحات المعروضة تصبح بذلك وسيلة استعادة للرواية الأصلية، التي لطالما حاولت إسرائيل تقويضها عبر محو الرموز الثقافية، ومهاجمة التعليم، واستهداف الفضاءات الفنية.
المقاومة الناعمة
في ظل ما يجري، يمكن اعتبار هذا المعرض شكلًا من أشكال المقاومة الناعمة، لكنه مقاومة لا تقل أهمية عن الصمود الميداني. فكل لوحة فيه تُعيد بناء سردية فلسطينية تُواجه محاولات التشويه، وتُحاكي الوجدان العربي والعالمي بلغة بصرية لا تحتاج إلى ترجمة. اختيار اسم المعرض “لن نرحل” يُعيد صياغة جوهر النكبة في صيغة رفض صريح للاستسلام، بينما يُذكّر عنوانه الفرعي “ستبقى فلسطين للفلسطينيين” بحقيقة يُحاول الاحتلال قلبها منذ 1948.
في اللحظة التي تتعرض فيها غزة للدمار، والضفة للتجريف والتنكيل، تصبح المعارض الفنية مثل هذا الحدث ليس مجرد احتفاء بالفن، بل موقفًا سياسيًا، ورسالة مفادها أن الثقافة لن تُقصف، وأن الشعب الذي ينتج الفن لا يُهزم بسهولة. الفن هنا ليس رفاهية، بل وسيلة مقاومة، وذاكرة حيّة تعيد صياغة الهوية في وجه التهجير والإبادة الرمزية.
إقامة المعرض في متحف يحمل اسم محمود درويش يُضفي عليه بُعدًا رمزيًا أعمق؛ فالشاعر الذي جعل من الوطن قصيدة، ومن المنفى حضورًا، يجد امتداده اليوم في لوحات تُكمل ما بدأه بالكلمات، وتُترجم شعره إلى صورة. فبين الشعر والريشة، وبين الأرض واللون، تتجدد رسالة الفلسطيني: نحن هنا، وسنبقى.