سحب صندوق الثروة السيادية النرويجي، وهو الأكبر في العالم، استثماراته من شركة “باز” الإسرائيلية، وهو قرار يحمل دلالات بالغة الأهمية على المستويين الاقتصادي والسياسي، ويعكس تحولاً متصاعدًا في مواقف المؤسسات المالية العالمية تجاه الشركات المرتبطة بالنشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية.
ما يجعل هذا القرار أكثر تأثيرًا هو أن الصندوق ليس مجرد مستثمر عادي، بل جهة تُعَدّ مرجعية أخلاقية ومالية في السياسات الاستثمارية، ويتبع معايير صارمة فيما يخص البيئة وحقوق الإنسان والحوكمة الرشيدة، مما يمنح قراراته بُعدًا رمزيًا وقانونيًا قويًا.
الوجود غير القانوني للمستوطنات
يُعد تخارج الصندوق من “باز” موقفًا علنيًا صارخًا ضد النشاط الاستيطاني، وخاصة أنه أُرفق بتفسير واضح من مجلس الأخلاقيات التابع له، والذي اعتبر أن تشغيل البنية التحتية لتزويد الوقود للمستوطنات يُسهم في “استمرار الوجود غير القانوني لهذه المستوطنات”، وهو ما يضع الشركة في موقع المخالفة المباشرة للقانون الدولي. هذه اللغة الحازمة تخرج من نطاق التحفظ الدبلوماسي المعتاد في الأوساط الاقتصادية، وتقترب من خطاب المقاطعة السياسية، حتى وإن لم يُستخدم هذا المصطلح حرفيًا.
تأثير هذا القرار على إسرائيل قد لا يكون ماليًا مباشرًا بحجم ضخم، خاصة أن حجم استثمار الصندوق في “باز” ربما لا يتجاوز عشرات أو مئات الملايين من الدولارات، مقارنة بالاقتصاد الإسرائيلي الذي يفوق حجمه 500 مليار دولار. لكن التأثير الأخطر هنا هو على صورة إسرائيل في السوق العالمية، وعلى مدى استعداد المؤسسات المالية للاستمرار في التعامل مع شركات تُتَّهم بالمساهمة في خرق القانون الدولي.
تجنب المخاطر السياسية
والأهم من ذلك أن هذا القرار ليس معزولًا، بل يأتي في سلسلة بدأت من تخارج الصندوق من شركة “بيزك” الإسرائيلية للاتصالات قبل أشهر، ويتوازى مع تحركات مشابهة من مؤسسات أكاديمية وجامعات وشركات أوروبية في مجالات مختلفة، خصوصًا بعد اندلاع حرب غزة في أكتوبر 2023. وبالتالي فإن التخوف الإسرائيلي الآن لم يعد مقتصرًا على الضغط الشعبي، بل بدأ يلمس تأثيرًا مؤسسيًا من كبار المستثمرين العالميين الذين يعيدون حساباتهم بناءً على اعتبارات الأخلاقيات والاستدامة.
هل سيدفع هذا القرار شركات أخرى لاتخاذ خطوات مشابهة؟ الجواب الأرجح: نعم، ولكن تدريجيًا. ما قام به الصندوق النرويجي سيفتح الباب أمام مجالس أخلاقيات في صناديق أوروبية أخرى (مثل الهولندية والسويدية والألمانية) لإعادة فحص استثماراتها وفقًا لنفس المعايير. القرار يشكّل سابقة يمكن الاستناد إليها، سواء من قبل ناشطي حقوق الإنسان أو من قبل المستثمرين أنفسهم الذين يفضلون تجنب المخاطر السياسية والقانونية المرتبطة بالمناطق المحتلة. كما أن تصاعد تغطية الإعلام العالمي لممارسات الاحتلال يضيف زخمًا للرأي العام الدافع نحو محاسبة الشركات الداعمة له.
سياسات إسرائيل والشرعية الدولية
إسرائيل، من جهتها، تنظر بقلق متزايد إلى هذه الموجة، لأنها تعلم أن فقدان الثقة من المستثمرين الكبار لا يُقاس فقط بالمبالغ، بل بالسمعة، التي تُعدّ رأس مال حاسم في الاقتصاد العالمي الحديث. ومع استمرار الضغط الحقوقي، واتساع الفجوة بين سياسات إسرائيل والشرعية الدولية، قد نشهد موجة انسحابات تدريجية من استثمارات في الشركات التي تعمل أو تُمول مشاريع في المستوطنات.
الرسالة الأساسية التي يرسلها صندوق الثروة النرويجي إلى السوق العالمية هي أن الالتزام بالقانون الدولي لم يعد خيارًا بل شرطًا للبقاء ضمن شبكات الاستثمار الكبرى. وهذا يُعد تحولًا نوعيًا في موازين العلاقة بين المال والسياسة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.