حادثة إدخال قربان حيواني إلى المسجد الأقصى، للمرة الأولى بهذه الصورة المباشرة، تمثل تصعيدًا خطيرًا وغير مسبوق في سياق الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة للمكان المقدس، وتعكس تحولًا في أدوات الاستفزاز الديني والسياسي التي تستخدمها الجماعات الاستيطانية المتطرفة.
الاقتحام الأخير، الذي تزامن مع ما يسمى “عيد الفصح اليهودي الصغير”، لم يكن مجرد طقس ديني محدود أو حادث فردي، بل كان نتاج تحريض منظم ومنسق من جمعيات استيطانية تسعى منذ سنوات إلى فرض واقع جديد في المسجد الأقصى، يتجاوز الاقتحام الروتيني إلى إعادة إحياء شعائر دينية داخل الحرم، في إشارة واضحة إلى محاولة ترسيخ “الرواية التوراتية” على حساب الوضع القائم.
تواطؤ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية
المشهد بات أكثر وضوحًا: جماعات استيطانية تعمل بإصرار على إدخال القرابين إلى باحات المسجد بزعم أنه “موقع الهيكل”، وتسعى من خلال ذلك إلى فرض أمر واقع ديني، يشكل جزءًا من مشروع أكبر يُعرف بـ”التقسيم الزماني والمكاني” للمسجد. أي تحويل الحرم القدسي إلى مساحة مشتركة بين اليهود والمسلمين، بترتيبات زمنية ومكانية مفروضة بالقوة. وهذا النموذج نفسه سبق تطبيقه في الحرم الإبراهيمي في الخليل، ما يجعل التخوفات الفلسطينية مشروعة وعميقة.
المستوى الخطير في هذه الحادثة يتجلى في أن الشرطة الإسرائيلية، رغم أنها قامت بإخراج المستوطن، إلا أنها في الوقت ذاته سمحت له بالدخول بالقربان من الأساس، وسط حماية مشددة لمجموعات المقتحمين. وهذا يطرح تساؤلات حقيقية حول مدى تواطؤ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، أو على الأقل تساهلها المتعمد، مع أجندات الجماعات المتطرفة، وهو ما يفاقم من الغضب الفلسطيني ويعمّق شعور الاستفزاز الديني والسياسي.
تحرك عربي وإسلامي ودولي
في المقابل، تبذل الحكومة الفلسطينية، جهودًا في إطار سياسي وإعلامي ودبلوماسي لوقف هذه الانتهاكات. فقد سارعت محافظة القدس إلى إصدار بيان شديد اللهجة، اعتبرت فيه إدخال القربان “جريمة” وانتهاكًا صريحًا لقدسية المسجد الأقصى، محملة سلطات الاحتلال كامل المسؤولية عن تداعياتها. وهذا البيان ليس مجرد إدانة تقليدية، بل يحمل في طياته تحذيرًا صريحًا من انفجار وشيك في حال استمر التصعيد داخل الحرم.
كما دعت الحكومة الفلسطينية، من خلال مؤسساتها في القدس، إلى تحرك عربي وإسلامي ودولي عاجل، مطالبة الدول الكبرى والمنظمات الحقوقية بتحمل مسؤولياتها تجاه حماية المقدسات الإسلامية. غير أن هذه الدعوات، رغم مشروعيتها، لا تزال تصطدم بجمود واضح في الموقف الدولي، وتراجع كبير في دعم القضية الفلسطينية، خاصة في ظل انشغال العالم بالأزمات المتعددة، وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا والصراع في غزة.
معركة سيادة وهوية دينية
ما يعمق الأزمة أن الانتهاكات بحق المسجد الأقصى لم تعد تُقابل بإدانات فعالة من الأطراف الفاعلة دوليًا، بل أصبحت مشهدًا يتكرر مع مرور الوقت، دون محاسبة أو عقوبات. وهذا الفراغ في الموقف الدولي يفتح شهية اليمين الإسرائيلي والجماعات الاستيطانية للتمادي أكثر، ما ينذر بانفجار قادم قد لا يُمكن السيطرة عليه، خاصة إذا ما ترافق مع موجات غضب شعبي فلسطيني، يمكن أن تمتد إلى مناطق أخرى من الضفة الغربية والداخل المحتل.
ما يحدث في المسجد الأقصى ليس مجرد “اقتحامات”، بل هو معركة سيادة وهوية دينية وتاريخية، يحاول فيها الاحتلال، عبر أدواته السياسية والدينية، إعادة تعريف المكان، وفرض سرديته، وسط صمت دولي وتراجع عربي. والجهود الفلسطينية، تشكل جدارًا أخلاقيًا وسياسيًا لا بد من دعمه، لكنّ المعركة تتطلب أكثر من بيانات، بل موقفًا عربيًا وإسلاميًا موحدًا، يعيد الاعتبار للقدس كقضية مركزية لا يمكن السكوت عن تهويدها.