ما يحدث في قطاع غزة اليوم تجاوز حدود الحرب التقليدية، وتحول إلى كارثة إنسانية شاملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. القصف العشوائي على منازل المدنيين، تحت ذرائع “الإنذارات المسبقة” أو “الاشتباه في استخدام المناطق لإطلاق صواريخ”، لا يمكن فهمه إلا ضمن إطار سياسة ممنهجة للتدمير الجماعي، لا تستهدف فقط البنية العسكرية لحركة حماس كما يُروج، بل تستهدف المجتمع الفلسطيني نفسه، وجوداً وهوية.
مجازر متعمدة بحق المدنيين
الغارات الإسرائيلية التي أوقعت 65 شهيداً خلال ساعات، معظمهم من الأطفال والنساء، هي جزء من نمط متكرر يستهدف المساحات السكنية الكثيفة، خصوصاً في شمال القطاع. البلاغات “التحذيرية” التي تُرسل للسكان قبل دقائق من القصف ليست إجراءات إنسانية، بل ذرائع شكلية تُستخدم لتبرير مجازر متعمدة بحق المدنيين. فكيف يُتوقع من عائلات تضم مرضى وأطفال ومسنين أن تُغادر بيوتها خلال دقائق، وسط قصف متزامن وطريق للفرار غير آمن أساساً؟
الجيش الإسرائيلي، بدعمه الكامل من الولايات المتحدة، يعتمد سياسة الأرض المحروقة في غزة، مدمراً كل شيء: من البنى التحتية إلى المساكن، من المستشفيات إلى المدارس. القصف الذي استهدف منزل عائلة قرب مسجد الفرقان، والخيم التي تؤوي نازحين في خان يونس، يكشف أن المدني الفلسطيني لم يعد آمناً لا في بيته، ولا في مأواه المؤقت، ولا حتى تحت خيمة مهترئة. هذه ليست “أخطاء عملياتية”، بل جزء من استراتيجية تقوم على الإذلال والتجويع والترهيب والاقتلاع.
تهور عسكري
محاولة اغتيال محمد السنوار باستخدام 40 قنبلة خارقة للتحصينات في منطقة مأهولة مثل خان يونس، ليست فقط متهورة عسكرياً، بل مجرمة أخلاقياً. فالهدف لا يبرر وسيلة تسحق مئات الأرواح تحت أنقاض منازلهم، خصوصاً في ظل غياب أي بنية إيواء أو خدمات طبية في القطاع الذي يعاني من حصار خانق منذ أكثر من 17 عاماً.
المدنيون في غزة باتوا اليوم بين فكي كماشة: من جهة طائرات ومدفعية لا تفرّق بين طفل ومقاتل، ومن جهة واقع إنساني بائس لا يوفر لهم الماء أو الغذاء أو الدواء. لا أماكن آمنة، لا كهرباء، لا مشافٍ قادرة على التعامل مع الأعداد الهائلة من الجرحى، ولا تدخل دولي قادر على وقف هذا الجنون. حتى مراكز الإيواء غير متوفرة، وما يُسمى “الممرات الإنسانية” غالباً ما تتحول إلى مصائد موت، أو تبقى مجرد وعود إعلامية بلا تنفيذ.
غزة تحوّلت إلى درس مؤلم
الإبادة الجارية في غزة لا تتعلق فقط بالأرقام المهولة للشهداء والجرحى، بل تتعلق بمحو مجتمع كامل من الوجود: تدمير الذاكرة، والمكان، والعلاقات الاجتماعية، والثقافة، والحق في الحياة. نحن أمام سيناريو يتكرر كل يوم منذ 7 أكتوبر، لكن كل يوم يأتي بفظاعة جديدة، وصمت عالمي أكثر قسوة.
ورغم ذلك، يظل الفلسطيني في غزة صامداً. ليس لأنه لا يشعر بالخوف أو الألم، بل لأنه لا يملك خياراً آخر. غزة تحوّلت إلى درس مؤلم عن معنى التمسك بالحياة في وجه الموت، عن معنى أن تبقى واقفاً وسط أنقاض عالم انهار فوقك.