شهد الشهر الماضي حدثاً تاريخياً في الصناعة الدفاعية التركية، حيث نجحت طائرة هجومية بدون طيار من طراز TB3 في الإقلاع والهبوط على متن حاملة طائرات تركية الصنع، في سابقة عالمية بحسب تصريحات سيلجوق بيرقدار، رئيس شركة “بايكار” الرائدة في مجال الطائرات المسيرة. هذا الإنجاز لم يكن مجرد تطور تقني، بل حمل دلالات رمزية عميقة، حيث تمت مقارنته بأمجاد الأسطول العثماني في القرن السادس عشر بقيادة الأدميرال خير الدين بربروسا.
هذا التقدم العسكري يأتي في وقت تشهد فيه العلاقات التركية-الأوروبية تحولاً جوهرياً. فبينما تواصل أنقرة سياساتها الداخلية المثيرة للجدل، بما في ذلك اعتقال المعارضين وتقييد الحريات، تبدو بروكسل مستعدة للتغاضي عن هذه الممارسات في ظل الحاجة الماسة لحليف قوي في مواجهة التهديدات الروسية. ويبدو أن الرئيس أردوغان يدرك جيداً هذه المعادلة، حيث صرح مؤخراً بأن “الأمن الأوروبي لا يمكن تصوره بدون تركيا”، في إشارة واضحة إلى الأوراق الرابحة التي تمتلكها بلاده.
الواقع الجيوسياسي الحالي يمنح تركيا موقعاً استراتيجياً فريداً. فبينما تواجه أوروبا صعوبات في تكوين قوة ردع كافية لحماية حدودها الشرقية، يبرز الجيش التركي – الأكبر في حلف الناتو على الجانب الأوروبي – كخيار عملي. الخبرة التركية في العمليات العسكرية عبر الحدود، كما في ليبيا والصومال، بالإضافة إلى كفاءتها في مكافحة التمرد، تجعل منها شريكاً لا غنى عنه في أي ترتيبات أمنية إقليمية.
الصناعة الدفاعية التركية تشهد طفرة غير مسبوقة، حيث تنتج البلاد مجموعة واسعة من المعدات العسكرية بدءاً من الطائرات المسيرة وحتى السفن الحربية، معظمها بقطع ومكونات محلية. شركات مثل “بايكار” و”STM” و”TAI” تتصدر المشهد، حيث لا تكتفي بتلبية الاحتياجات المحلية بل تمد أسواقاً دولية بما فيها أوكرانيا. التعاون الأخير بين “بايكار” وشركة “ليوناردو” الإيطالية يفتح آفاقاً جديدة للصناعة التركية في السوق الأوروبية.
الدبلوماسية التركية تستفيد بدورها من هذه الأوراق العسكرية. عرض أردوغان استضافة محادثات بين روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة يعكس المكانة الجديدة لأنقرة كوسيط لا يمكن تجاوزه. هذه الجهود تكتمل مع تزايد حضور المسؤولين الأتراك في المحافل الأوروبية، حيث أصبح وزير الخارجية هاكان فيدان وجهة معتادة في اجتماعات الدفاع الأوروبية.
المفارقة تكمن في أن هذا النفوذ المتصاعد يأتي بالتوازي مع تجمد محادثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي منذ ست سنوات. لكن كما يلاحظ الخبراء، لقد تحولت العلاقة من التركيز على معايير الانضمام إلى اعتبارات جيوسياسية بحتة. فتركيا اليوم ليست طالباً للعضوية بقدر ما هي شريك استراتيجي تمتلك ما تحتاجه أوروبا في لحظة تاريخية حرجة.
في النهاية، يبدو أن أنقرة تنجح في تحويل تحدياتها الجغرافية إلى مكاسب استراتيجية. فبينما تعتمد أوروبا بشكل متزايد على القدرات الدفاعية التركية، يجد أردوغان في هذه العلاقة فرصة لتعزيز مكانة بلاده الإقليمية ودورها العالمي، مستخدماً صناعته الدفاعية المزدهرة كأداة نفوذ فعّالة في السياسة الدولية.