في قلب الحرب المستعرة على غزة، يتجلى مشهد شديد التعقيد من المعاناة الإنسانية، والمكابرة السياسية، والصراع الوجودي بين أطراف النزاع. أحد أبرز معالم هذا المشهد هو السلوك المستمر لحركة “حماس” في إدارة القطاع، رغم شدة الكارثة الإنسانية وحجم الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية والمجتمع المدني، وانكشاف محدودية قدراتها العسكرية بشكل غير مسبوق.
تفاقم الكارثة الإنسانية
حماس، التي تمسكت منذ عام 2007 بالسيطرة على غزة، باتت تواجه اليوم مشهداً مختلفاً كلياً. فالحرب الأخيرة كشفت بشكل صارخ عن ضعف قدراتها العسكرية في مواجهة إسرائيل، التي باتت تعتمد تكتيكات أكثر تطوراً وشراسة، مثل الأحزمة النارية التي تُغلق بها مناطق محددة بالكامل بالنيران، بهدف تصفية قيادات بعينها — كما هو الحال مع محمد السنوار، أحد أبرز وجوه “القسام”.
ورغم أن حماس ما تزال قادرة على إطلاق الصواريخ، إلا أن فعاليتها في تغيير ميزان القوى أو ردع إسرائيل تراجعت بشكل ملحوظ. القبة الحديدية تتعامل مع غالبية هذه المقذوفات، بينما تمضي إسرائيل في تنفيذ عملياتها البرية والجوية الدقيقة ضد شبكات الأنفاق ومراكز القيادة. هذا الضعف العملياتي يتزامن مع تفاقم الكارثة الإنسانية، حيث تُقصف مناطق آهلة بالسكان بشكل متكرر، مما يعرّض أرواح المدنيين — نساءً وأطفالاً وشيوخاً — للخطر المباشر.
حكم قطاع مدمّر
في هذا السياق، يصبح سلوك حماس أشبه بمقامرة كبرى على حساب المجتمع الذي تدّعي تمثيله. فبدلاً من تقديم تنازلات سياسية قد تفتح الباب لحلول تخفف من الكارثة، تصر الحركة على الاستمرار في نهج المواجهة، رافضةً أي نقاش جدي حول التنازل عن الحكم أو الدخول في مصالحة داخلية شاملة. وهنا يبرز السؤال الأخلاقي والسياسي في آن: ما جدوى التمسك بحكم قطاع مدمّر، دون موارد، ومحاصر من جميع الجهات، في مقابل حياة الملايين من المدنيين الذين يعيشون في ظروف لا تليق بالبشر؟
حماس تدرك تماماً أن رصيدها السياسي والعسكري في تناقص، لكن يبدو أنها تعوّل على عامل الوقت، وعلى تغيرات إقليمية أو ضغوط دولية قد تعيد خلط الأوراق. غير أن هذا الرهان يأتي في لحظة مأساوية غير مسبوقة، حيث فقدت غزة معظم ملامح الحياة الطبيعية، وأصبحت المدينة ساحة للدمار الشامل، وسط صمت دولي وعجز عربي متزايد.
غزة أسيرة معادلة قاسية
الرهان على البقاء في السلطة وسط هذا الركام لا يبدو عقلانياً، بل يحمل طابعاً أيديولوجياً يتجاوز الاعتبارات الإنسانية. ومع أن حماس قد تكون مستهدفة كحركة مقاومة في الخطاب السياسي، إلا أن إدارتها الفعلية للحرب ولمناطق المدنيين تظهر ميلاً واضحاً لاستخدام الناس كدروع بشرية في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، ما يجعل من الموقف برمّته كارثة أخلاقية وسياسية.
وفي نهاية المطاف، تبقى غزة أسيرة معادلة قاسية: طرف يملك القوة لكنه لا يملك الإرادة السياسية للسلام، وطرف يملك القرار لكنه يفتقد القدرة الفعلية على تغيير المعادلة… وبين الاثنين، يُترك الشعب ليدفع ثمن الحسابات الكبرى.