تتجه الأنظار إلى دمشق هذه الأيام مع القرار الأميركي المفاجئ برفع العقوبات المفروضة على سوريا، في خطوة وصفها المسؤولون السوريون بـ”التاريخية” والمفصلية، فيما اعتُبرت على نطاق واسع بوابة محتملة لمرحلة جديدة تعيد سوريا إلى الساحة الدولية والاقتصادية، وربما تعيد رسم المشهد الإقليمي برمّته.
القرار، الذي دخل حيّز التنفيذ يوم الثلاثاء، لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة سلسلة تحركات إقليمية قادتها دول وازنة مثل السعودية وتركيا وقطر، لعبت أدوارًا محورية في تهيئة الظروف السياسية والدبلوماسية لإحداث هذا التحوّل. وهو ما أكده وزير الاقتصاد السوري، محمد نضال الشعار، خلال مقابلة أجراها معه تلفزيون سوريا، إذ قال إن هذا القرار يمثل “حلماً تحقق بعد عقود من الانتظار والمعاناة”، مشيرًا إلى أنه لم يكن ممكنًا في ظل النظام السابق.
الشعار اعتبر أن رفع العقوبات ليس مجرد تحول إداري من واشنطن، بل هو في جوهره “لحظة إنسانية وإنصاف تاريخي”، ستفتح المجال أمام الشعب السوري “للتنفس اقتصاديًا” والبدء بمرحلة إعادة الإعمار التي طال انتظارها. كما توجه بالشكر إلى الدول التي ساهمت في الوصول إلى هذه النتيجة، وخص بالذكر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وأمير قطر، والرئيس التركي، على ما وصفه بـ”جهود دبلوماسية استثنائية” أفضت إلى هذا الإنجاز.
أما وزير المالية، محمد يسر برنية، فرأى في القرار ما هو أكثر من مجرد تحول سياسي، إذ وصفه بأنه “فرصة حقيقية للشعب السوري لإعادة بناء اقتصاده ودولته”، مؤكدًا أن مناخ التفاؤل الذي شاع عقب الإعلان عن القرار يعكس “عمق التوق السوري للانفكاك من عزلة فرضت قسرًا لعقود”.
الوزير برنية أشار أيضًا إلى أن سوريا، طوال السنوات الماضية، كانت من بين أكثر دول العالم تعرضًا للعقوبات الاقتصادية، مما كبّد الاقتصاد السوري خسائر باهظة، وأثّر بشكل مباشر على حياة المواطنين، لا سيما في قطاعات الطاقة، والدواء، والمصارف، والاستيراد. أما اليوم، فإن هذا القرار – كما يراه – “يعيد الأمل بإحياء القطاعات الحيوية وجذب الاستثمارات وعودة الشركات الأجنبية”.
لكن ورغم الأجواء الإيجابية، لا تزال التحديات كثيرة. إذ يتطلب تحويل هذا القرار إلى نتائج ملموسة على الأرض جهودًا ضخمة في مجال إصلاح البنية التحتية، واستعادة ثقة الشركاء الدوليين، وتوفير بيئة تشريعية شفافة وجاذبة. كما أن النظرة الدولية تجاه سوريا ستبقى مرهونة بسلوك الدولة السورية في المرحلة المقبلة، ومدى انفتاحها على شراكات فعلية تستند إلى الحوكمة الرشيدة.
تركة بشار الأسد الثقيلة
رغم التفاؤل الذي رافق قرار رفع العقوبات، لا يمكن القفز على الواقع الاقتصادي المعقّد الذي ورثته الحكومة السورية الجديدة عن نظام بشار الأسد. فالبلاد التي خرجت من عقود من الحصار والعزلة، تحمل اليوم عبء اقتصاد منهك ومفتت، لا بفعل العقوبات وحدها، بل بسبب سوء الإدارة، والفساد المستشري، والانهيار الممنهج للبنية التحتية، وتفكيك القطاعات الحيوية.
خلال سنوات حكم الأسد، تحولت سوريا إلى واحدة من أكثر دول العالم فقرًا، وانهارت عملتها المحلية أمام الدولار، وبلغت معدلات التضخم مستويات غير مسبوقة، فيما تدهورت الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والكهرباء والماء، وغابت الدولة عن القيام بأبسط وظائفها. كما فرّت الكفاءات الاقتصادية والعلمية إلى الخارج، وواجه ملايين السوريين البطالة والعوز.
وفي ظل غياب خطط اقتصادية واضحة، ومع سيطرة شبكات من المحسوبين على النظام على مفاصل الاقتصاد، تحوّلت الدولة السورية إلى ما يشبه اقتصاد الظل، تتغذى على التحويلات، والتهريب، والفساد، دون أي إنتاج حقيقي أو استثمار مؤسسي.
وبالتالي، فإن رفع العقوبات – رغم أهميته – لا يعني تجاوز الأزمة تلقائيًا. فالحكومة الجديدة مطالَبة اليوم بتفكيك هذا الإرث الثقيل، واستعادة ثقة الداخل والخارج، وإعادة بناء المؤسسات من الصفر، وسط تحديات هائلة تتطلب شجاعة سياسية، وإصلاحًا جذريًا، وإرادة لا تساوم على مبادئ الشفافية والكفاءة