تتخذ الحرب في غزة منذ بدايتها أبعادًا إقليمية تتجاوز الجغرافيا الفلسطينية، غير أن ما بات لافتًا هو دخول جماعة “أنصار الله” (الحوثيون) على خط الصراع بشكل أكثر فاعلية وتصعيدًا. فقد أصبحت الجماعة – التي تسيطر على جزء كبير من الأراضي اليمنية – لاعبًا مباشرًا في المعركة، من خلال إطلاقها صواريخ وطائرات مسيّرة باتجاه إسرائيل، وتحديدًا على مواقع استراتيجية مثل مطار بن غوريون. وفي المقابل، نفذت إسرائيل منذ يوليو 2024 سلسلة من الغارات الجوية على أهداف حيوية في مناطق سيطرة الجماعة، بلغ عددها حتى الآن ثمانية هجمات.
قصف الموانئ: رسائل إسرائيلية متعددة
في أحدث فصول التصعيد، شنت إسرائيل مساء الجمعة غارات عنيفة استهدفت ميناءي الحُديدة والصليف في محافظة الحُديدة الساحلية. ووفق مصادر إسرائيلية، فإن العملية نُفّذت بواسطة أكثر من عشر طائرات مقاتلة استخدمت عشرات القنابل، في ما وصفته تل أبيب بـ”الهجوم المركّز لفرض حصار بحري على الحوثيين”. وقد ترافقت الغارات مع تصريحات من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تؤكد أن ما حصل هو “بداية فقط”، في مؤشر على نية إسرائيل مواصلة استهداف البنية التحتية التي تستخدمها “أنصار الله”.
الأهداف الإسرائيلية: حصار مزدوج ورسالة للداخل والخارج
تسعى إسرائيل، من خلال هذه الهجمات، إلى تحقيق جملة أهداف استراتيجية:
-
تحجيم خطر الهجمات اليمنية التي طالت أهدافًا حيوية إسرائيلية، ونجح بعضها – مثل الصواريخ الفرط صوتية – في اختراق الدفاعات الجوية والوصول إلى محيط مطار بن غوريون، ما شكّل إحراجًا كبيرًا للمنظومة العسكرية الإسرائيلية.
-
توسيع دائرة الحرب بحذر محسوب: إذ تحرص إسرائيل على إيصال رسالة ردع للجهات التي دخلت على خط دعم غزة، من غير أن تنزلق نحو مواجهة شاملة لا يمكن احتواؤها، وهو ما يفسر تحذيرها للسكان قبيل بعض الغارات وتجنبها لوقوع خسائر بشرية مباشرة.
-
تعزيز صورة الرد الحازم في الداخل الإسرائيلي، بعد تزايد الانتقادات لأداء الحكومة في إدارة الحرب متعددة الجبهات.
الموقف اليمني: مقاومة مستمرة وتصعيد نوعي
في المقابل، تبنّت “أنصار الله” موقفًا تصعيديًا يتجاوز الرمزية، من خلال تبنيها هجمات مباشرة ضد المطارات الإسرائيلية. وقد أعلنت الجماعة، على لسان متحدثيها السياسيين والعسكريين، أن هذه العمليات ستتواصل وستتوسع، في إطار ما تعتبره “واجبًا دينيًا وإنسانيًا لنصرة الشعب الفلسطيني”.
ولعلّ ما يُميز الموقف اليمني هذه المرة ليس فقط إطلاق الصواريخ بل القدرة على الوصول الدقيق والفعال إلى أهداف إسرائيلية حساسة، وهو تطور يعكس نضوجًا في البنية الصاروخية للجماعة، واستعدادها لمواجهة رد إسرائيلي محتمل.
الداخل اليمني: تعبئة جماهيرية ودعم شعبي
التحركات العسكرية لـ”أنصار الله” تحظى بغطاء جماهيري واضح، تمثل في مسيرات ضخمة شهدتها العاصمة صنعاء ومدن يمنية أخرى تحت شعارات داعمة لغزة ومعادية للتطبيع. هذه الحشود ليست جديدة في نمط التعبئة الحوثية، لكنها هذه المرة تحمل رسائل مزدوجة: داخلية تثبت شرعية القيادة، وخارجية تؤكد أن الجماعة ليست مجرد فصيل محلي بل جزء من محور إقليمي يتبنى المقاومة كنهج سياسي وعسكري.
البُعد الإقليمي: اختبار لتوازنات الحرب في المنطقة
إسرائيل، في قصفها لموانئ الحديدة، لا تختبر فقط قوة “أنصار الله”، بل تضع الإقليم بأكمله أمام معادلة جديدة. فالحرب لم تعد محصورة في غزة، بل باتت تخضع لتفاعلات متعددة الأطراف: من حزب الله في الشمال، إلى ميليشيات في العراق وسوريا، وصولاً إلى اليمن.
وبينما تلوّح إسرائيل بقدرتها على فرض “حصار شامل” على الحوثيين، فإن الواقع الميداني يشي بأن الجماعة باتت تمتلك زمام المبادرة إلى حد ما، ولو جزئيًا، في مسألة الرد والتهديد للممرات البحرية والمطارات.
خاتمة: نحو مزيد من التصعيد المفتوح؟
يبدو أن الحرب في غزة لن تبقى جغرافية أو زمنية ضمن حدود ضيقة، إذ تنذر التطورات الأخيرة بمزيد من التورط الإقليمي. ومع عجز المبادرات الدبلوماسية حتى الآن عن وقف العدوان أو تقليص خسائره، تدخل المنطقة مرحلة أكثر خطورة، تتعدد فيها الجبهات وتتشابك فيها الحسابات.
لكن من الواضح أن اليمن – رغم ظروفه المعقدة – بات يمثل إحدى جبهات الضغط على إسرائيل، في مشهد غير مسبوق منذ عقود، وهو ما قد يفرض على تل أبيب إعادة تقييم أولوياتها العسكرية والسياسية في قادم الأسابيع.