تنعقد القمة العربية الرابعة والثلاثون، يوم السبت، في العاصمة العراقية بغداد، وسط تحضيرات سياسية وأمنية واسعة النطاق، في لحظة إقليمية بالغة التعقيد، تتداخل فيها أزمات الأمن والسيادة، مع طموحات التنمية والتكامل العربي. وقد أكد رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، أن بلاده أنهت جميع الاستعدادات لاستضافة القمة، مشيرًا إلى أن الرهان الأساسي هو على “صدور قرارات توازي التحديات والتطورات في الساحتين العربية والإقليمية”.
وتحمل القمة طابعًا خاصًا، ليس فقط لكونها تُعقد للمرة الأولى منذ سنوات في بغداد، بل لأنها تمثل اختبارًا جادًا لمدى قدرة الدول العربية على إنتاج مواقف موحدة وفعالة تجاه الملفات الكبرى، وفي مقدمتها الحرب في غزة، والأزمات في اليمن وليبيا والسودان، إلى جانب مشروع “طريق التنمية” الذي تروج له بغداد بوصفه جسراً استراتيجياً يربط آسيا بأوروبا.
فلسطين أولًا: تأكيد على حل الدولتين رغم التصعيد
تتصدر القضية الفلسطينية جدول أعمال القمة، كما أكد وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، وسط مؤشرات على وجود توافق عربي حول ضرورة تجديد الدعم السياسي والمالي للشعب الفلسطيني، لا سيما في ظل الدمار الهائل الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وبحسب مصادر دبلوماسية عربية تحدثت لـ”القدس العربي”، فإن مشروع البيان الختامي يتضمن “تأكيدًا صريحًا على تمسك الدول العربية بحل الدولتين كأساس لتسوية عادلة وشاملة، تضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية”. كما يتضمن البيان “دعوة المجتمع الدولي إلى وقف جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وفرض عقوبات عليه إن استمر في خرق القانون الدولي”.
ويرى مراقبون أن قمة بغداد تشكل فرصة لإعادة الاعتبار للمبادرة العربية للسلام التي أُطلقت من بيروت عام 2002، لكنها بقيت حبيسة الأدراج، في ظل الانقسامات العربية من جهة، وتعنت إسرائيل من جهة أخرى، وتبدل أولويات بعض العواصم العربية التي اندفعت نحو اتفاقيات تطبيع ثنائية خلال السنوات الماضية.
العراق في قلب المعادلة: من ساحة صراع إلى منصة دبلوماسية
العراق، الذي عانى لعقود من التدخلات الأجنبية والانقسامات الداخلية، يبدو اليوم في موقع جديد يسعى فيه إلى لعب دور الوسيط النزيه في الملفات الإقليمية المعقدة. وقد أشار السوداني في تصريحاته إلى أن “أمن سوريا جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العراقي”، كما عبّر عن استعداد بغداد لـ”تسوية الخلافات العربية من منطلق التوازن والحياد”.
ويأتي انعقاد القمة في بغداد بمثابة رسالة سياسية للعالم مفادها أن العراق تجاوز مرحلة الانكفاء، وبات مستعدًا لاستعادة دوره المحوري في محيطه العربي، خصوصًا مع نجاحه النسبي في استضافة لقاءات حوارية بين إيران ودول خليجية خلال السنوات الماضية، وتبنيه سياسة خارجية تقوم على التهدئة والانفتاح.
أجندة مزدحمة: اليمن، ليبيا، السودان… و”طريق التنمية”
في موازاة الملف الفلسطيني، تطرح القمة عدة قضايا ملحة:
-
الأزمة اليمنية، وسط مساعٍ عربية لإحياء المسار السياسي، في ظل استمرار التوتر على البحر الأحمر وتأثيره على الملاحة الدولية.
-
الأزمة الليبية، حيث ما تزال الانقسامات الداخلية تحول دون إجراء الانتخابات وتوحيد المؤسسات.
-
الصراع في السودان، الذي ينذر بتفكيك الدولة السودانية في حال استمرار النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع.
كما سيحظى مشروع “طريق التنمية”، الذي أطلقه العراق كممر استراتيجي يربط موانئ البصرة بتركيا وأوروبا، باهتمام خاص، كونه يعكس توجهًا جديدًا لبناء شراكات اقتصادية عربية–عربية بعيدًا من الاعتماد على الأطر التقليدية.
رمزية المشاركة العربية والدولية
ووفق ما أكده وكيل وزارة الخارجية هشام العلوي، فإن مستوى الحضور “رفيع جدًا”، ويشمل زعماء ومسؤولين من الأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الإفريقي، ومجلس التعاون الخليجي، إلى جانب دول أوروبية من بينها إسبانيا.
ويرى العلوي أن القمة فرصة تاريخية للعراق لتثبيت موقعه على خارطة العمل العربي المشترك، واستثمار هذه اللحظة السياسية لتحقيق تقدم في ملفات التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بما ينسجم مع التحولات التي يشهدها العالم العربي في مجالات التنمية المستدامة والحوكمة الرشيدة.
رسائل القمة: بغداد آمنة… والعرب عائدون للعمل الجماعي
من المؤكد أن مجرد انعقاد القمة في بغداد يحمل رمزية كبيرة، تؤشر إلى مرحلة جديدة من الاستقرار النسبي في العراق، وإلى رغبة عربية في إعادة العراق إلى دوره الطبيعي كركيزة أساسية في المنظومة الإقليمية.
كما تبعث القمة برسالة إلى المجتمع الدولي بأن العمل العربي الجماعي لا يزال ممكنًا رغم التباينات، وأنه يمكن للعواصم العربية أن تتكلم بصوت واحد على الأقل في القضايا المصيرية، وعلى رأسها فلسطين.
الخلاصة: قمة تعيد رسم التوازنات؟
قد لا تحل قمة بغداد جميع أزمات المنطقة، لكنها بالتأكيد ترسم مسارًا جديدًا نحو استعادة التوازن العربي في عالم تتغير فيه التحالفات باستمرار. وإذا ما استطاعت بغداد قيادة موقف عربي موحد يدعم حل الدولتين بوضوح، ويطالب بوقف العدوان على غزة، فإنها تكون قد نجحت في تثبيت موقعها الجديد كجسر سياسي بين العرب والعالم.