يعكس الوضع الراهن في غزة، في ضوء التحركات الأخيرة والتصريحات الصادرة عن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أن المشهد معقد تتقاطع فيه المصالح الإقليمية والدولية، وسط حالة من الجمود في مسار المفاوضات، وتفاقم المأساة الإنسانية في القطاع.
حماس وتكتيك التنازلات المشروطة
رغم إشارات حركة “حماس” إلى الاستعداد للعودة إلى محادثات مباشرة مع واشنطن، إلا أن هذا الانفتاح لا يعني بالضرورة استعداداً كاملاً لتقديم تنازلات استراتيجية كبيرة. بل يمكن فهمه كخطوة تكتيكية تهدف إلى كسر العزلة الدولية المتزايدة وإعادة التموضع في المشهد السياسي، خاصة مع تعثر مفاوضات الدوحة، وتزايد الضغط الداخلي بسبب الوضع الإنساني الكارثي في غزة.
“حماس” لن تقدم تنازلات جوهرية بسهولة، خصوصاً إذا تعلق الأمر بتفكيك بنيتها العسكرية أو بالتخلي عن الحكم في غزة، إذ ترى الحركة أن الحفاظ على سلطتها هو الضمان الوحيد لبقائها قوة مؤثرة في أي تسوية مستقبلية. وهذا التمسك يأتي على حساب معاناة المدنيين، وهو ما يجعلها تتعرض لانتقادات داخلية وخارجية متزايدة.
الولايات المتحدة وحدود الضغط على إسرائيل
أما عن قدرة الولايات المتحدة على الضغط على إسرائيل، فهي ممكنة من الناحية النظرية، لكنها تواجه معوقات على أرض الواقع. رغم تصريحات ترمب عن “نية لحل مشكلة غزة” ووعوده بحدوث “أشياء جيدة خلال الشهر المقبل”، فإن سجل العلاقات الأميركية الإسرائيلية يُظهر أن واشنطن نادراً ما تمارس ضغطاً جاداً على تل أبيب، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالسياسات الأمنية والعسكرية.
في هذا السياق، فإن مكالمة المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف مع نتنياهو والتي استمرت ساعتين دون إحراز تقدم، تعكس حدود هذا التأثير. نتنياهو يتمتع بدعم قوي داخل المؤسسات الأميركية، وهناك تيارات داخل واشنطن ترى أن إنهاء الحرب دون “نزع شوكة حماس” أمر غير مقبول.
معادلة الحكم مقابل رفع الحصار
من المؤكد أن أحد محاور المفاوضات الرئيسية هو ما إذا كانت “حماس” مستعدة للتخلي عن حكم غزة مقابل اتفاق شامل لوقف إطلاق النار ورفع الحصار. هذا الطرح قد يلقى قبولاً جزئياً في أوساط بعض قيادات “حماس”، لكن الجناح العسكري للحركة، مدعوماً من جهات إقليمية مثل إيران، لا يبدو مستعداً للتنازل عن السيطرة، ما يعقّد الوصول إلى تسوية.
كما أن إسرائيل ترى في استمرار حكم “حماس” تهديداً أمنياً مباشراً، ولذلك تسعى إلى صفقة لا تتضمن وقفاً شاملاً للحرب بل هدنة محدودة، تُبقي الضغط على الحركة مستمراً.
الكلفة الإنسانية والسياسية
المدنيون في غزة يدفعون الثمن الأكبر في هذا الصراع، وسط تحذيرات منظمات الإغاثة من مجاعة وشيكة ونفاد تام للمواد الأساسية. ومع ذلك، تستمر إسرائيل في إغلاق المعابر وتمنع دخول المساعدات، في محاولة لخنق “حماس” شعبياً.
لكنّ هذا النهج قد يرتد عكسياً، إذ يُمكن أن يعزز من سردية الحركة بأنها “المدافع الأخير عن القضية الفلسطينية”، رغم الفشل الواضح في تأمين حياة كريمة لسكان القطاع.
في ظل هذه الظروف، يبدو أن حماس قد تذهب نحو تنازلات شكلية فقط لإرضاء الوسطاء وكسب وقت، دون التنازل عن حكم غزة، وهو ما يطيل أمد الأزمة. أما الولايات المتحدة، فرغم قدرتها على تحريك الأطراف، إلا أنها حتى اللحظة لم تستخدم أوراقها بفعالية كافية للضغط الحقيقي على إسرائيل أو لفرض إطار ملزم للمفاوضات.
الحل الحقيقي يتطلب تغيراً جذرياً في مواقف جميع الأطراف، وربما ضغوطاً غير تقليدية من واشنطن، ترافقها ضمانات دولية لإعادة إعمار غزة وتحقيق تسوية مستدامة، تضمن كرامة وأمن الشعب الفلسطيني دون تأبيد حكم طرف واحد.