تشهد غزة هذه الأيام تصعيداً عسكرياً إسرائيلياً غير مسبوق منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023، في ظل دخول الجيش الإسرائيلي في “المرحلة الأولية” من ما يسميه “عملية عربات جدعون”، وسط وعود رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بـ”الاجتياح الكامل” للقطاع، وإنهاء وجود حركة “حماس” بشكل نهائي، مهما كانت الكلفة.
وفي الوقت الذي تُعلن فيه إسرائيل أن هذه العملية تهدف إلى تحرير الرهائن والقضاء على ما تسميه “التهديد الأمني المستمر”، فإن الواقع الميداني يُظهر أن المدنيين هم من يدفعون الثمن الأكبر مرة أخرى، وبكلفة إنسانية باهظة.
تصعيد دموي جديد وواقع إنساني كارثي
الضربات التي بدأ الجيش الإسرائيلي شنّها منذ يوم الجمعة، ووصفها بأنها “مكثفة”، أسفرت خلال 36 ساعة فقط عن مقتل أكثر من 250 فلسطينيًا، حسب ما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مصادر طبية ودفاع مدني داخل القطاع. وتشير التقارير إلى أن غالبية الضحايا هم من المدنيين، بمن فيهم نساء وأطفال، ما يؤكد أن العملية العسكرية، وإن كانت موجّهة ظاهرياً نحو أهداف “عسكرية”، فإنها تؤدي عملياً إلى سقوط جماعي للمدنيين.
هذه الهجمات طالت خصوصاً مناطق شمال القطاع، بما في ذلك مخيم جباليا الذي تحول إلى رمز للمأساة الجارية. سكان المخيم أفادوا بأن القصف كان مفاجئاً ومكثفاً، حيث دمرت منازل على رؤوس ساكنيها، وسط حالة من الذعر والفوضى، فيما تُركت العائلات تبحث عن أحبائها بين الأنقاض، دون معدات إنقاذ أو إمكانيات طبية حقيقية.
هل غزة مهددة بالتهجير الجماعي؟
مع إعلان حكومة نتنياهو مطلع مايو عن “خطة احتلال كاملة” لغزة، يبدو أن الهدف ليس فقط العسكري، بل التغيير الجذري في واقع القطاع الجغرافي والديمغرافي. هذه الخطة تهدد بنزوح قسري لما لا يقل عن 2.4 مليون فلسطيني، في ظل شح الموارد، وتدمير المستشفيات، وتدمير البنية التحتية للقطاع بالكامل.
الوضع الحالي تجاوز مجرد الحرب، ودخل مرحلة تُشبَّه بالإبادة الصامتة. إذ تمنع إسرائيل منذ مارس الماضي دخول أي مساعدات إنسانية، بما فيها الغذاء، الدواء، والوقود، الأمر الذي يضع القطاع أمام مجاعة حقيقية، ونظام صحي منهار بالكامل.
غزة ليست للبيع
في هذا المشهد المأساوي، جاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب في نهاية جولته الخليجية لتشير إلى نية أميركية للتحرك، حيث أبدى اهتماماً بالوضع الإنساني، قائلاً: “كثير من الناس يتضورون جوعاً هناك”، في إشارة إلى ما اعتبره بداية حل للأزمة. غير أن تصريحات متزامنة له حول “أخذ غزة وتحويلها إلى منطقة حرية” أثارت غضب “حماس”.
اللافت هنا أن “حماس” كانت قد قدمت بادرة خلال الأسبوع الماضي بإطلاق سراح الرهينة الأميركي الإسرائيلي عيدان ألكسندر، بناءً على تفاهمات مع الموفدين الأميركيين. هذه الخطوة جاءت على أمل تخفيف الضغط عن القطاع، والسماح بإدخال المساعدات. إلا أن الرد الإسرائيلي كان بمزيد من التصعيد والرفض لأي تخفيف للحصار، ما يعكس أن هناك فجوة عميقة بين الجهود الدبلوماسية وبين واقع الميدان.
دماء في المستشفيات وصمت دولي مخيف
المستشفيات في غزة تحولت إلى ساحات مملوءة بالدموع والدماء. في المستشفى الإندونيسي في بيت لاهيا، كان المواطنون يبكون جثث أحبائهم الممددين على الأرض، بعد أن تقطعت بهم السبل، وتلاشت إمكانية تلقي أي رعاية طبية حقيقية. لا أدوية، لا أدوات جراحية، لا وقود لتشغيل المولدات… فقط الصدمة، والألم، والموت.
كل هذا يحدث وسط صمت دولي متزايد، أو بيانات تنديد لا تتبعها أفعال حقيقية. وفي المقابل، إسرائيل تتحدث عن “أهداف الحرب”، وتوسيع رقعة العمليات، بما يوحي أن ما هو قادم قد يكون أسوأ.
غزة اليوم ليست فقط ساحة معركة، بل مشهد كامل لانهيار إنساني وجريمة سياسية. الجيش الإسرائيلي يتحدث عن مراحل أولية لعملية واسعة، لكن آثارها على الأرض وصلت إلى ذروتها من القتل والدمار والنزوح.
نتنياهو يبدو مصمماً على السير في هذا المسار حتى نهايته، حتى ولو كان الثمن هو محو غزة من الخارطة، أو دفع سكانها للهجرة القسرية. أما “حماس”، فرغم المبادرات الجزئية، لا تزال تراهن على الصمود والمناورة السياسية، دون أن تُظهر مؤشرات حقيقية على تغيير المسار.
ووسط كل ذلك، يظل السؤال الأهم: من سيوقف هذا النزيف؟ ومتى يصبح الدم الفلسطيني أثقل من الحسابات السياسية؟