الوضع الإنساني في قطاع غزة بلغ مستويات كارثية، في ظل استمرار الحصار ومنع دخول المساعدات الإنسانية منذ بداية مارس، واستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، وغياب أي أفق حقيقي لوقف إطلاق النار. هذا الواقع المتدهور يجعل عمل المنظمات الإغاثية أشبه بمهمة مستحيلة، محفوفة بالتحديات السياسية والأمنية، بل والأخلاقية أيضاً، مع دخول لاعبين جدد مثل “مؤسسة إغاثة غزة” المدعومة أميركياً، وسط تشكيك المنظمات الأممية بجدوى هذه الآلية الجديدة.
التحرك الميداني لإدخال المساعدات
إحدى أكبر العقبات التي تواجه المؤسسات الإغاثية اليوم هي المنع الإسرائيلي الكامل لدخول المساعدات، وهو ليس فقط قرارًا تقنيًا أو أمنيًا، بل أداة سياسية تُستخدم في سياق الحرب الأوسع ضد حركة “حماس”. ورغم الاعتراف الأميركي، وتحديداً من الرئيس دونالد ترمب، بأن “الكثير من الناس في غزة يتضورون جوعاً”، فإن التحرك الميداني لإدخال المساعدات لا يزال بطيئًا للغاية، ومقيّدًا بشروط إسرائيلية صارمة، وغالباً تعجيزية.
مؤسسة “إغاثة غزة”، التي أنشأتها الولايات المتحدة كهيئة بديلة لتوزيع المساعدات، تُواجه منذ يومها الأول انتقادات حادة. فبينما تزعم إسرائيل والولايات المتحدة أن هذه الآلية ستمنع “حماس” من سرقة المساعدات – وهي رواية غير مثبتة بشهادات موثوقة من وكالات الإغاثة الدولية – فإن المنظمات الأممية ترفض الانخراط في هذه الخطة الجديدة، لأنها ترى فيها خطراً مضاعفاً على الفلسطينيين.
مواقع التوزيع الآمنة
هذا الرفض لا يأتي من فراغ. منظمات مثل برنامج الغذاء العالمي ومنظمة الصحة العالمية أكدت مرارًا أنه لا يوجد دليل جاد على تحويل المساعدات إلى غير مستحقيها داخل غزة. ولذلك فإن إصرار إسرائيل والولايات المتحدة على آلية جديدة قد يبدو، في جوهره، محاولة لتقويض عمل المؤسسات الأممية، وفرض رقابة سياسية على عملية الإغاثة، بما قد يؤدي إلى تجزئة المساعدات، وتأخير وصولها للمحتاجين.
إحدى المخاطر الكبرى التي تُنذر بها المنظمات الدولية هي أن هذه الآلية قد تُستخدم كأداة لإعادة تشكيل الواقع الجغرافي في غزة، عبر تقييد توزيع المساعدات في مناطق معينة دون غيرها، مما يدفع السكان للهروب نحو “مواقع التوزيع الآمنة” في الجنوب، ويُكرّس تهجيراً داخلياً قسرياً. وهو ما حذرت منه الأمم المتحدة صراحةً، قائلة إن آلية كهذه “تخاطر بتوسيع التهجير القائم، وتعريض المزيد من الفلسطينيين للخطر”.
ضمانات أمنية حقيقية
إضافة إلى ذلك، تظل مسألة عدم وجود ضمانات أمنية حقيقية أكبر التحديات أمام أي مؤسسة إغاثية. القصف الإسرائيلي لا يميّز بين أهداف عسكرية ومدنية، والمستودعات والمراكز الطبية والموظفون الإنسانيون أنفسهم ليسوا بمأمن. عدد من العاملين في المجال الإنساني قُتلوا خلال الأشهر الماضية، ما دفع بعض المنظمات إلى تقليص أو تعليق أنشطتها.
جيك وود، المدير التنفيذي لـ”مؤسسة إغاثة غزة”، حاول طمأنة الرأي العام بقوله إنهم “لن يكونوا جزءاً من أي خطة تُجبر الفلسطينيين على النزوح”، لكن هذا التأكيد يظل قاصراً ما دام عمل المؤسسة مرتبطاً بمواقع توزيع محددة، وبموافقة إسرائيلية مشروطة ومحدودة، ترفض حتى الآن الإفصاح عن عدد الشاحنات المسموح لها بالدخول، أو توقيت هذا الدخول.
ضمانات دولية
الواقع يقول إن الفلسطينيين في غزة لا يحتاجون فقط لمساعدات إنسانية، بل لممر إنساني حقيقي ودائم، بضمانات دولية واضحة، بعيداً عن الحسابات السياسية والعسكرية. ما يحدث حالياً هو محاولة لإدارة الكارثة، لا حلّها، عبر إعادة هندسة توزيع المساعدات بما يخدم مصالح أمنية وسياسية، وليس حاجات إنسانية.
تجد المؤسسات الإغاثية في غزة نفسها اليوم بين المطرقة والسندان: بين الإغلاق الإسرائيلي الكامل للمعابر، والشروط السياسية المستجدة التي تُفرَض باسم “الرقابة”، وبين الحاجة العاجلة لإنقاذ أرواح نصف مليون إنسان يواجهون المجاعة. وفي هذا المشهد، تتحول المساعدات الإنسانية من أداة إنقاذ، إلى ورقة تفاوض قاسية، تُديرها أطراف لا تضع حياة المدنيين على رأس أولوياتها.