القصف الإسرائيلي الذي استهدف اليوم السبت منازل المدنيين في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، وأدى إلى استشهاد أربعة أطفال على الأقل وإصابة سبعة آخرين، ليس حادثاً عرضياً أو هامشياً في سياق الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023، بل هو جزء من نمط ثابت وممنهج، يكشف عن سياسة واضحة في استهداف المدنيين، خصوصاً الأطفال، كوسيلة ضغط سياسي وميداني ضد حماس وسكان القطاع عموماً.
العقاب الجماعي
ما يحدث في غزة لا يمكن فصله عن مفهوم العقاب الجماعي، ولا يمكن تبريره ضمن قوانين الحرب أو قواعد الاشتباك المعترف بها دولياً. فاستهداف منازل سكنية في مناطق مكتظة كجباليا أو دير البلح، والضربات الجوية التي تطال أحياء مدنية مأهولة، تكشف أن القصف لا يميز بين هدف عسكري ومكان لجوء أو تجمع عائلي. بل إن نمط القصف – كما توثقه المنظمات الحقوقية وشهادات الناجين – يدل على أن المدنيين، والأطفال تحديداً، ليسوا فقط “أضراراً جانبية”، بل ضمن دائرة الاستهداف نفسها، ضمن منطق الحرب الذي تتبناه إسرائيل منذ بداية العدوان.
استشهاد الأطفال الأربعة اليوم، ليس إلا نقطة في بحر المجازر اليومية التي تحوّلت إلى خبر اعتيادي في نشرات الأخبار. حتى الآن، بحسب المعطيات الصادرة من وزارة الصحة في غزة، تجاوز عدد الشهداء 53,000 شهيد، غالبيتهم من الأطفال والنساء. الأرقام في حد ذاتها مرعبة، لكنها تصبح أكثر مأساوية عندما نُدرك أن الآلاف من هؤلاء قضوا داخل منازلهم، في غرف نومهم، أو خلال محاولتهم الفرار من منطقة إلى أخرى في ظل انعدام الملاجئ والممرات الآمنة.
العنف ضد الأطفال
الاستهداف المتكرر للأطفال في غزة يتجاوز منطق الخطأ العملياتي أو سوء التقدير الاستخباراتي. إنه انعكاس مباشر لسياسة تُحاول أن تُحمّل المدنيين، والأطفال خصوصاً، كلفة صراع سياسي وأمني لا دخل لهم فيه. الرسالة التي توجّهها إسرائيل من خلال هذه الضربات واضحة: لا أمان في غزة، لا خط أحمر، ولا تمييز بين مقاتل وطفل، بين منزل وهدف عسكري، الكل في مرمى النار.
هذا النمط من العنف ضد الأطفال يُعتبر، بموجب القانون الدولي، جريمة حرب. لا يحق لأي جيش أن يبرر استهداف المدنيين، وخاصة القُصّر، تحت أي ذريعة. وحتى لو افترضنا وجود عناصر مسلحة بالقرب من المواقع المستهدفة، فإن استخدام القوة المفرطة، وعدم اتخاذ الاحتياطات الكافية لتجنّب الإضرار بالمدنيين، يُعد خرقًا صريحًا لاتفاقيات جنيف.
فرض وقف حقيقي للعدوان
الأخطر في هذا السياق هو الصمت الدولي المتواطئ، الذي يمنح الاحتلال حصانة غير معلنة في استهداف الفئات الأضعف. فلا المجتمع الدولي، ولا مجلس الأمن، ولا حتى المنظمات الأممية، استطاعت حتى الآن فرض وقف حقيقي للعدوان، أو تأمين حماية للمدنيين. بل أصبح الأطفال الفلسطينيون في غزة يُقتلون وسط تقارير “قلقة” وبيانات “إدانة” باهتة لا تغير شيئاً من الواقع.
ما تعكسه الأحداث في جباليا ودير البلح هو أن حياة الطفل الفلسطيني لا تُعامل بالمعايير الإنسانية نفسها التي تُطبق في مناطق الصراع الأخرى. في غزة، يبدو أن الطفولة ليست درعاً من الاستهداف، بل أصبحت رمزاً للمعاناة، وعنواناً للفشل الدولي في حماية المدنيين. ومع كل طفل يُقتل، يُدفن جزء من ضمير العالم، ويُعاد تأكيد أن العدالة في هذا الجزء من العالم ما زالت رهينة للسياسة والقوة.
أن استهداف الأطفال في غزة لم يعد مجرد نتيجة مؤسفة لحرب شرسة، بل تحوّل إلى سياسة واضحة المعالم، تُنفّذ بأدوات القتل والتجاهل، وترتكب يومياً في وضح النهار، دون محاسبة أو حتى اهتمام حقيقي. وهذا الواقع، إن استمر، لن يُدمر غزة فقط، بل سيُدمّر ما تبقى من شرعية النظام الدولي نفسه، الذي يدّعي حماية حقوق الإنسان بينما يغض الطرف عن مجازر الطفولة في قطاع محاصر.