المخطط الإسرائيلي الذي كشفته الخريطة المسرّبة ونشرته صحيفة «صنداي تايمز» يشكل تطورًا خطيرًا ليس فقط على المستوى الأمني والعسكري، بل على المستوى الإنساني والسياسي أيضًا، ويعكس نية واضحة نحو إعادة تشكيل الواقع الجغرافي والديمغرافي لقطاع غزة بطريقة قسرية وذات طابع استيطاني أمني بحت، تحت ذريعة السيطرة الكاملة ومنع تجدد التهديدات.
تفتيت متعمد للنسيج السكاني
مخططيقوم المخطط على تقسيم قطاع غزة إلى ثلاث مناطق مدنية معزولة، تخضع لمراقبة مشددة وتُفصل بينها أربع مناطق عسكرية مغلقة مخصصة فقط لقوات الجيش الإسرائيلي. هذا التصميم لا يمكن قراءته إلا كمشروع تفتيت متعمد للنسيج السكاني والاجتماعي في القطاع، بما يشبه نظام «الكانتونات» المحاصرة، في مشهد يذكر بممارسات التمييز العنصري أو نظام “البانتوستانات” الذي شهده التاريخ في جنوب أفريقيا.
بحسب التسريبات، فإن الخطة، تحت عنوان «المرحلة الثالثة: السيطرة الكاملة على غزة»، ستمنع المدنيين من التنقل بين هذه المناطق دون الحصول على تصاريح أمنية، وهو ما سيحوّل الحياة اليومية لسكان غزة إلى نظام بيروقراطي قمعي مغلق، قائم على العزل الجماعي والرقابة المشددة. فرض نظام الباركود على دخول البضائع، وتولي شركات خاصة توزيع المساعدات تحت إشراف عسكري، يؤكد أن السيطرة تمتد إلى كل تفاصيل الحياة، من حرية الحركة إلى لقمة العيش.
منطقة خاضعة للاحتلال
هذه الخطة لا تطرح فقط أزمات لوجستية أو تحديات إنسانية، بل تفتح الباب أمام تغيير جذري في واقع القطاع وتحويله إلى منطقة خاضعة بالكامل للاحتلال من دون وجود فعلي له داخل المدن. بعبارة أخرى، نحن أمام احتلال عن بعد، يعتمد على التكنولوجيا، الحصار، والتقسيم، دون حاجة لتواجد دائم للجنود داخل التجمعات السكانية.
النية الظاهرة من هذه الخطة هي الضغط على «حماس» عبر إعادة تشكيل الواقع السكاني، لكن الأثر الحقيقي سيقع على المدنيين الذين يُستخدمون عمليًا كورقة ضغط. نقل 2.4 مليون إنسان إلى مناطق معزولة وتحت رقابة مشددة، مع تقييد الحركة، ومنع الإمدادات إلا بإشراف عسكري، يعني خنق السكان ودفعهم إما للرضوخ أو للهجرة القسرية.
إعادة رسم خريطة غزة
إن الممر العسكري الجديد بين جنوب ووسط القطاع، بالإضافة إلى توسيع المنطقة العازلة، يؤكد أن المخطط يتجاوز الجانب التكتيكي ليصبح إعادة رسم لخريطة غزة السياسية والديمغرافية. من شأن هذا التقسيم أن يلغي أي أفق لحل سياسي أو لقيام كيان فلسطيني موحد في غزة، ويدفن فكرة الدولة الفلسطينية من أساسها، على الأقل في شقها الجغرافي الساحلي.
خطر هذه الخطة يتعدى الواقع الفلسطيني ليؤسس لنموذج جديد من الحروب وإعادة رسم الحدود بالقوة العسكرية على حساب القانون الدولي والمواثيق الإنسانية. فالعالم اليوم يواجه سابقة: مشروع تقسيم كامل تحت الاحتلال، يتم التخطيط له علنًا ويُنفذ على مراحل وسط صمت دولي ورضا أمريكي، حتى لو جاء في صورة “إشراف شركات خاصة”.
تفريغ القضية الفلسطينية
الخطة لا يمكن إلا أن تُعتبر شكلًا من أشكال الهندسة السكانية القسرية، ومحاولة لتفريغ القضية الفلسطينية من بعدها الإنساني والسياسي، وتحويل غزة إلى مجرد مساحة محايدة تُدار عن بُعد وفق مصالح أمنية إسرائيلية بحتة. وبهذا، فإن ما يُطرح اليوم ليس مجرد “مقترح أمني”، بل نقلة خطيرة نحو تفتيت الهوية الوطنية الفلسطينية وتقويض كل ما تبقى من حلم الدولة المستقلة.