رغم مرور أكثر من عام ونصف على الحرب المستمرة في قطاع غزة، وما خلّفته من دمار واسع وخسائر بشرية هائلة في صفوف المدنيين، لا تزال حركة حماس – وتحديدًا جناحها العسكري “كتائب القسام” – متمسكة بخيار المقاومة المسلحة، وترفض الانسحاب من المشهد أو تسليم السلطة في غزة لأي جهة أخرى، بما فيها السلطة الفلسطينية، أو القبول بأي تسوية سياسية تُفضي إلى نزع سلاحها. هذا الإصرار، الذي يبدو للوهلة الأولى ضربًا من التحدي أو الثبات العقائدي، يحمل في طياته تعقيدات أكبر تتعلق بتركيبة الحركة، وسياستها، وسرديتها أمام جمهورها، وكذلك بصراعها على الشرعية والقيادة الفلسطينية في ظل تغيّر موازين القوى.
انهيار غزة
في الأيام الأخيرة، برزت عملية كمين “العطاطرة” شمال قطاع غزة، التي نفذتها كتائب القسام واستهدفت فيها 3 آليات إسرائيلية بعبوات ناسفة وقذائف، ما أدى إلى إصابات مؤكدة في صفوف الجنود، واضطر الجيش الإسرائيلي لإجلاء المصابين بالمروحيات.
هذه العمليات النوعية لا تُخفي واقعاً أكثر قتامة. فغزة، كما يصفها المراقبون، باتت على شفير الانهيار الكامل. البنية التحتية مدمّرة، عدد الشهداء تجاوز 35 ألفاً معظمهم من المدنيين، مئات الآلاف بلا مأوى، وانعدام شبه تام للغذاء والدواء والماء الصالح للشرب. ومع ذلك، تصر حماس على التمسك بالسلطة والمقاومة في آن واحد، رافضة أي سيناريو يُنهي حكمها للقطاع، حتى لو كان هذا يعني استمرار الكارثة الإنسانية.
هذا الإصرار يمكن فهمه في ضوء عدة اعتبارات:
1. الصراع على شرعية القيادة
منذ الانقسام الفلسطيني عام 2007، تعيش الساحة الفلسطينية حالة من الانقسام الحاد بين “فتح” التي تدير الضفة الغربية، و”حماس” التي تحكم غزة. أي تراجع من قبل حماس عن إدارة القطاع يعني عملياً خسارة ساحتها الوحيدة للحكم والشرعية السياسية. ولأن السلطة الفلسطينية تُعتبر – في نظر حماس – شريكاً في التنسيق الأمني مع الاحتلال، فإن تسليم غزة لها دون شروط، يبدو للحركة كـ”انتحار سياسي”.
2. التوازنات الإقليمية
تمسك حماس بالسلطة في غزة لا يُفهم فقط ضمن السياق المحلي، بل أيضاً ضمن اللعبة الإقليمية. فهي ورقة تستخدمها قوى مثل إيران وحزب الله في مواجهة إسرائيل، وفي ظل تشابك الملفات من اليمن إلى سوريا ولبنان، فإن التخلي عن غزة يعني تقليص النفوذ الإيراني في خاصرة إسرائيل الجنوبية.
3. رفض “الهزيمة المجانية”
رغم الدمار الكبير، فإن قيادة حماس – كما يبدو من تصريحاتها وتحركاتها – لا ترى في الوضع القائم هزيمة نهائية، بل تعتبره معركة استنزاف طويلة الأمد، تهدف إلى إضعاف الاحتلال وفضح جرائمه أمام العالم. وفي حسابات الحرب النفسية، فإن القدرة على البقاء تحت الحصار والقصف، والقيام بعمليات نوعية كالتي جرت في “العطاطرة”، تُعد نصراً رمزياً .
التمسك بالحكم والمقاومة، دون أفق سياسي واضح أو استراتيجية خروج، يجعل غزة رهينة معادلة صفرية، يدفع ثمنها المدنيون العزّل. عشرات الآلاف من القتلى، ملايين النازحين، شلل كامل للحياة، وجيل جديد يُربى وسط الأنقاض. هذا الواقع يفرض تساؤلات وجودية على حماس: هل تتحول المقاومة إلى وسيلة للبقاء في السلطة؟ وهل يجوز شرعنة استمرار الحرب على حساب أرواح الأبرياء؟
جرائم إبادة
الاحتلال الإسرائيلي، بدوره، لا يقل خطورة في تعنته وجرائمه. فممارساته ترقى لجرائم إبادة، والسياسة الإسرائيلية التي ترفض الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، هي أصل المشكلة. لكن، في ظل هذا المشهد المعقّد، تبدو حماس مطالبة بمراجعة خياراتها. فالإصرار على المواجهة لا يمكن أن يكون بديلاً عن استراتيجية وطنية شاملة، قادرة على جمع الشارع الفلسطيني على مشروع تحرر حقيقي، لا مجرد مشهد بطولي متكرر ومكلِّف.